الملك الحزين الذي غار من راعي الغنم النائم تحت ظل الشجرة

الملك الحزين الذي غار من راعي الغنم النائم تحت ظل الشجرة
قصة قصيرة / الجمعة 12 سبتمبر 2025 - 22:55 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد الشباب المجيد

أنتلجنسيا المغرب: الرباط

كان الملك يجلس في شرفة قصره العالي، ينظر إلى السهل الممتد أمامه، حيث تنتشر أغنامه وقطعان الماشية التي يملكها. لكن عيناه لم تلتقط إلا مشهداً واحداً شدّه بشدة: راعي غنم بسيط استلقى تحت ظل شجرة وارفة، واضعاً يده تحت رأسه، ينام في راحة وسكينة كما لو أن الدنيا كلها ملك يديه. شعر الملك بغصة في صدره، وقال في نفسه: "كيف لرجل لا يملك شيئاً أن ينام بهذا الاطمئنان، بينما أنا، ملك البلاد، لا أذوق طعم النوم إلا في قلق ووجع رأس؟".

اقترب أحد مستشاريه فسأله الملك: "هل ترى ذاك الراعي؟ إنه يغط في نوم عميق دون هم أو قلق، بينما أنا لم يزرني النوم منذ ليالٍ طويلة. ما سر ذلك؟". ابتسم المستشار وقال: "مولاي، الراعي لا يملك شيئاً يخاف ضياعه، ولا لديه عرش يخشى سقوطه، أما أنت فتحمل فوق كتفيك ثقل المملكة كلها".

ظل الملك يراقب الراعي حتى استيقظ الأخير وتمطى في راحة. فناداه الملك عبر أحد جنوده: "اقترب أيها الراعي". فجاء الراعي في بساطة، وقال بانحناءة: "أمرك مولاي". سأله الملك مباشرة: "أجبني بصدق، كيف تنام كل ليلة بهذا الهدوء وكأنك لا تعرف الهم؟". أجاب الراعي: "مولاي، أنام كما ينام الطفل، فلا أملك قصراً أخاف عليه، ولا خزائن أرتعد خوفاً من ضياعها، بل أملك قوت يومي وراحة ضميري، وهما كفيلان بأن يمنحاني نوماً هنيئاً".

قال الملك في دهشة: "لكن ألا يشغلك الغد؟ ألا تفكر إن هاجم الذئب غنمك، أو إن مرضت ولم تجد طعاماً؟". ابتسم الراعي قائلاً: "مولاي، الغد بيد الله، واليوم بيدي، وإن ضاع مني شيء فلن يضيع رزقي المكتوب. أما أنت، فالغد عندك معركة طويلة مع السياسة، والليلة عندك حرب مع الأفكار".

سكت الملك قليلاً ثم قال: "إذن أنت ترى أني أتعذب لأني أملك أكثر؟". فرد الراعي: "نعم يا مولاي، الملك لا يعذبه عرشه بل خوفه من فقدانه، والغني لا يتعبه ماله بل وسواسه من ضياعه. أما الفقير فلا يخاف إلا من جوع قصير العمر، ينام على أمل أن يشبع غداً".

جلس الملك على صخرة قريبة، وبدأ يحادث الراعي دون كبرياء: "قل لي، أيها الرجل البسيط، لو كنتَ ملكاً يوماً، هل كنت ستنام كما تنام الآن؟". هز الراعي رأسه قائلاً: "لا يا مولاي، الملك لا ينام إلا بعين مفتوحة، أما الراعي فينام بكلتي عينيه لأنه لا يحرس سوى نفسه وغنمه".

أطرق الملك طويلاً ثم قال: "أتعرف، إنني أحسدك يا راعي. كل ليلة أضع رأسي على وسادة من حرير، فلا يزورني النوم إلا قليلاً، وأنت تضع رأسك على حجر فترتاح كأنك في جنة". ضحك الراعي في خجل وقال: "مولاي، الجنة ليست في الوسادة، بل في القلب، فإذا كان القلب مرتاحاً نام الجسد ولو على تراب".

تنهد الملك: "كم وددت لو أبدل مقامي بمقامك يوماً واحداً لأذوق هذا السلام". فرد الراعي: "لكن يا مولاي، لو عشتَ مقامي يوماً واحداً لعرفت مرارته أيضاً، فالفقر له وخزه، لكنه لا يسلب النوم. أما الغنى فله لذته، لكنه يسرق الراحة".

رفع الملك رأسه نحو السماء قائلاً: "إذن هي معادلة عجيبة: الفقير يملك راحة النوم بلا مال، والغني يملك المال بلا راحة". قال الراعي: "صحيح، ولكن من يرضى بنصيبه يربح الإثنين معاً؛ فالغني القنوع ينام، والفقير الطامع يسهر".

اقترب الملك أكثر، وكأنه طفل يستنصح والده، وقال: "دلني أيها الراعي، ماذا أفعل لأذوق طعم النوم الذي عندك؟". أجابه الراعي: "خفف حملك يا مولاي، وزّع من خزائنك على فقرائك، فكلما قلّت الأوزار عن كتفيك زادت ساعات نومك".

قال الملك بتمعّن: "تطلب مني أن أوزع المال، وهل سيمنحني ذلك راحة؟". أجاب الراعي بثقة: "مولاي، حين تشبع بطون الجياع، تنام عيونهم بدعاء لك، فتنام عينك أيضاً مطمئنة".

ضحك الملك وقال: "أيها الراعي، لم أسمع حكمة كهذه في قصور الحكماء. أنت رجل بسطاء لكن قلبك يحمل علماً أغلى من كل كنوزي". فرد الراعي: "مولاي، الحكمة لا تحتاج قصراً لتسكن فيه، أحياناً تسكن في كوخ راعٍ بين الأغنام".

نهض الملك وهو يتمتم: "لقد علمتني درساً اليوم يا رجل، علّمني أن الملك الحقيقي هو من يملك راحته لا من يملك عرشاً". أجاب الراعي: "نعم يا مولاي، فالعرش قد يسقط، لكن راحة القلب تبقى".

قبل أن يرحل، نظر الملك إلى الراعي مبتسماً: "سأحاول أن أنام الليلة كما تنام أنت، ولو مرة واحدة، لأشعر أنني عشت ملكاً بحق". أجابه الراعي: "النوم هدية الله، ومن يثق بالله ينلها بلا عناء".

رجع الملك إلى قصره، وهو يردد في نفسه: "اليوم تعلمت أن الغنى الحقيقي ليس في خزائني، بل في أن يغمض الإنسان عينيه مطمئناً".

أما الراعي فعاد إلى غنمه، وهو يقول بينه وبين نفسه: "اليوم علّمت ملكاً درساً، لكنني لم أزد عن كوني راعياً يسكنه الرضا".

وفي تلك الليلة، حاول الملك لأول مرة أن يضع كل همومه جانباً، وأغمض عينيه وهو يتذكر حديث الراعي، فشعر براحة لم يعرفها منذ زمن بعيد، كأن ظل الشجرة التي نام تحتها الراعي قد مدّ جناحيه ليظلل الملك في قصره أيضاً.

هكذا انتهت قصة الملك الحزين الذي حسد راعي الغنم، وعرف أن النوم قرين الرضا، وأن الطمأنينة لا تُشترى بالمال ولا تُفرض بالسلطة، بل تُولد من قلب متصالح مع نفسه.

 

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك