
أنتلجنسيا المغرب: هيئة التحرير
في قرية منسية بين شعاب الجزيرة
العربية، لا تزال الحكاية تتردد على ألسنة العجائز كدرس قاسٍ في عواقب الحماقة
وقلة الحذر. حكاية “براقش”، الكلبة التي تحولت من حارسة للديار إلى السبب في
خرابها، تُروى في الأمثال لتبقى شاهدة على أن بعض الأفعال، مهما كانت نواياها، قد
تجر الخراب على أعز الناس.
براقش لم تكن كلبة عادية، بل كانت
وفية لأهل قريتها، سريعة الحركة، حادة الحاسة، تُنذرهم من أي اقتراب غريب. كانوا
يثقون بها، ويعتمدون على نباحها لتنبيههم لأي خطر، حتى صارت رمزًا للأمان واليقظة
في محيط القبيلة.
وذات ليلة حالكة، جاء الخطر من بعيد.
غزاة مدججون بالسيوف والسهام زحفوا نحو القرية. أدرك القوم أن لا سبيل لمواجهة
الهجوم، فاختاروا الهرب والاختباء في كهوف مظلمة بين الجبال، يصحبهم الخوف والصمت.
حتى أنفاسهم كانت خافتة، خشية أن تفضحهم.
رافقوا براقش معهم، وظنوا أنها ستصمت
كما صمتوا، وأنها ستفهم أن لحظة النجاة لا تحتمل نباحًا. غير أن الطبيعة حين تسبق
الحكمة، تُفسد ما يُبنى على الفطنة. رأت براقش الغزاة يقتربون، فنبحت بقوة، تظن
أنها تنبه قومها، بينما كانت في الواقع تشير إلى مخبئهم.
سُمِع نباحها يتردد في الصدى، فأدرك
الغزاة أن خلف الجبل من يختبئ. اتجهوا صوب الصوت، وهناك كان القوم يُحاصرون.
القتال لم يدم طويلًا، وسيوف الغزاة لم ترحم. قُتل معظمهم، ومن نجا، بقي يحمل في
قلبه غصّة اسمها براقش.
الحكاية انتقلت من جيل إلى جيل، وصارت
“جنت على أهلها براقش” مثلًا يُضرب فيمن يُفسد الأمور بقصد أو دون قصد، فتكون
العاقبة على الجميع. ولعل ما يجعل الحكاية أكثر مأساوية، أن براقش لم تكن خائنة،
بل كانت فقط جاهلة بما تفعله.
العبرة هنا أن حسن النية لا يُعفي من
سوء النتيجة. فالضرر حين يقع، لا يُفرّق بين مقصود وغير مقصود. والبعض قد يرتكب
الكارثة وهو يظن أنه يُنقذ، فيُصبح مثله كمثل براقش، رمز النية الطيبة ذات النتيجة
الفاجعة.
براقش ليست مجرد كلبة، بل استعارة
خالدة عن كل من يتكلم حين يجب أن يصمت، ويكشف حين ينبغي أن يُخفي، ويتصرف حين يلزم
التريث. إنها تمثل تلك الاندفاعات غير المحسوبة، التي تُكلف أصحابها الغالي
والثمين.
في عالم اليوم، تتكرر براقش في صور
شتى؛ سياسي يصرّح بتصريحات تؤجج الأزمات، أو إعلامي يُفشي أسرارًا بدعوى الشفافية،
أو مواطن ينشر إشاعة فتندلع فتنة. فكل نباح غير محسوب قد يُعيد تكرار مأساة براقش
بشكل أو بآخر.
براقش تسكن بيننا، في شكل مواقف
انفعالية، وقرارات مرتجلة، وردود أفعال غير مدروسة. وكلما انهارت مؤسسة، أو احترقت
علاقة، أو دُمرت مدينة، قد نجد في التفاصيل “براقش” جديدة ناحت حيث وجب الصمت.
لقد تحولت براقش من كلبة وفية إلى
لعنة على لسان العرب. ليس لأنها خانت، بل لأنها لم تُحسن تقدير اللحظة. واللحظة،
في زمن الأزمات، تساوي حياة أو موت، بناء أو دمار، نصر أو هزيمة.
المأساة لا تكمن في نباح براقش وحده،
بل في الثقة الزائدة التي وضعها القوم فيها. كان من المفترض أن تُترك خارج الكهف،
أو تُكبت بأي وسيلة. لكنهم اعتقدوا أن وفاءها كافٍ ليجعلها تفهم الموقف، فكانت
الخطيئة مزدوجة.
حينما يستند الإنسان إلى الغرائز
وحدها دون تعقل، يصبح أكثر خطرًا من العدو نفسه. وبراقش، رغم كونها مجرد حيوان،
أثبتت أن من لا يضبط نفسه في لحظات المصير، يُصبح عبئًا على أقرب الناس إليه.
هذا المثل، الذي يبدو للوهلة الأولى
بسيطًا، يحمل فلسفة عميقة في إدارة الأزمات، وفي فهم سلوك الجماعة، وفي تقدير من
يمكن الوثوق به ساعة المحنة. إنه دعوة لأن نفكر مرتين قبل أن نطلق “النباح” في زمن
الهدوء القاتل.
براقش لم تُقتل فقط بسبب ما فعلته، بل
لأنها جسّدت غباء اللحظة، وأصبحت شاهدًا على أن الوفاء الأعمى لا يُنقذ، وأن الطيش
حتى لو نُبع من نية حسنة، قد يُفجّر الكارثة.
تأمل القصة جيدًا، وستجد أن فيها
مفاتيح لحياة بأكملها: لا تُطلق رد فعل قبل أن تُدرك ما حولك، لا تثق كثيرًا في من
لا يملك وعيًا، لا تخلط بين الشجاعة والحماقة، ولا تتوقع من الغريزة أن تفهم
السياسة.
ولعلّ من اللافت أن المثل “جنت على
أهلها براقش” أصبح حاضراً بقوة في الحروب، في الأزمات السياسية، في التوترات
الاجتماعية، وحتى في العلاقات الشخصية. لأنه يعبر عن لحظة انفجار تأتي من أقرب
المقربين، ممن ظننا أنهم الحصن الآمن.
كل مرة ترى فيها منظمة تدمّر مشروعها
من الداخل، أو دولة تُسقط استقرارها بأيدي أبنائها، أو فريقًا يهزم نفسه قبل خصمه،
اعلم أن هناك براقش ما... نَبَحَت في غير أوانها.
براقش تذكير دائم بأن النية وحدها لا
تكفي، وأن الموقف لا يُقاس بالمشاعر، بل بالبصيرة والتقدير. إنها محاكمة صريحة
للاندفاع، ودعوة للسكوت في لحظات تستدعي الحكمة لا الحماس.
كان بإمكان براقش أن تكون بطلة، لو
صمتت. لكن البطولة أحيانًا تكون في السيطرة على الذات، لا في إثبات الحضور. وكانت
لتبقى وفية فعلاً لو لم تفضح مخبأ قومها، وتظن أن النباح دائمًا هو الحل.
براقش، بحماقتها، دمرت من أحبوها.
واليوم، نُعيد استحضارها كلما وقف أحدهم يفسد بأفعاله ما حاول الآخرون إنقاذه.
كلما ضُربت الحكمة بالخوف، أو خُلط الحذر بالجبن، كانت براقش حاضرة كمثال حيّ.
وهكذا، بقيت القصة خالدة في الذاكرة
الجماعية، محمولة على جناح مثل عربي شديد المرارة: “جنت على أهلها براقش”. قصة لا
تموت، لأنها تتكرر في كل زمان، وتنتقل من كلب إلى إنسان، ومن نباح إلى قرار، ومن
كهف إلى دولة.
فكم من براقش عاصرناها ونحن لا ندري؟
وكم من كارثة انفجرت لأن أحدهم ظن أنه يفعل الخير؟ وكم من مصير أُفلت من بين
الأيدي بسبب لحظة حمق واحدة؟... تظل الإجابة مرهونة بمدى قدرتنا على كبح براقش
التي بداخلنا جميعًا.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك