أنتلجنسيا المغرب: الرباط
في أعماق التاريخ، وفي قلب الظلم
والطغيان، سطّر القرآن الكريم قصة عظيمة لشباب آمنوا بربهم، وهربوا بدينهم إلى كهف
مظلم، فصاروا نورًا يهتدى به، وذكرى تتلى إلى يوم القيامة. إنها قصة أصحاب
الكهف، السبعة الذين لم تروِ لنا كتب السماء أسماءهم، ولكن خلدهم الله في سورة
تتلى كل جمعة، تذكّر الناس أن الإيمان لا عمر له، وأن النصر لا يحتاج سوى صدق
النية ورب قوي.
هؤلاء الفتية لم يكونوا أنبياء ولا
ملوكًا، بل شباب عاديون في مدينة غارقة في الشرك والفساد، يعيش فيها ملك جبار،
يدعي الألوهية ويتوعد من يخالفه بأشد العقاب. ومع ذلك، اختار هؤلاء الفتية طريقًا
مختلفًا: طريق التوحيد والحق، فثاروا في صمت، وانسحبوا من مجتمعهم، وأعلنوا ولاءهم
لله وحده.
"رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ"، هكذا قالوا، بكلمات قليلة فيها قوة التحدي، وإصرار الإيمان. لم
يجادلوا ولا ناقشوا، بل انسحبوا، لأنهم أدركوا أن الكلمة حين لا تُسمع، فالصمت مع
العزلة عبادة، والانسحاب بصمت قد يكون أبلغ من ألف خطبة.
ففروا إلى الكهف. كهف بسيط مهجور، لا
دفء فيه ولا أمان، لكنه كان أحب إليهم من القصور والمجالس الفاخرة. وفي هذا الكهف،
ألقى الله عليهم سباتًا عميقًا، نومًا لم تعرف البشرية له مثيلا: ثلاثمائة وتسع سنين وهم نائمون، بلا طعام ولا شراب، في
زمن متوقف، وأرض لا تعرفهم.
والأعجب من ذلك، أن الله جعل معهم
كلبًا، نعم، كلبًا بسيطًا من كلاب المدينة، تبعهم بإخلاص، فحُفظ معهم، وجُعل ذكره
في القرآن مقرونًا بذكرهم، ليكون منارة لمن يتساءل عن وفاء الحيوان، وعن قيمة
الرفقة. "وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ"، كأنما يحرسهم
حتى وهم نائمون، رمزًا للصبر والوفاء.
تفاصيل نومهم تحمل سرًا ربانيًا،
فالله قال: "وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ"، لحكمة يعلمها،
حتى لا يقترب منهم أحد. وكان يُقلبهم يمينًا وشمالًا، حتى لا تأكل الأرض أجسادهم.
وجعل ضوء الشمس يدخل إلى الكهف بطريقة تحافظ على أجسادهم من التلف، في معجزة طبية
فريدة.
فلما بعثهم الله من سباتهم الطويل، لم
يشعروا إلا وكأنهم ناموا ليوم أو بعض يوم. وهكذا يكون الزمن نسبيًا، بين قدرة الله
وزمن البشر، فلا تدعه يخدعك، ولا تعتقد أن مرور الوقت دليل على الهزيمة أو النصر،
فالله يدبر الأمور على قدره، لا على توقيتنا.
وحين خرج أحدهم ليشتري طعامًا، فوجئ
أهل المدينة بعملة قديمة يحملها، فتحققوا من أمرهم، واكتشفوا القصة العجيبة،
فصاروا حديث المدينة. وحين علم الفتية أن القوم أصبحوا مؤمنين، وأن فتنتهم انتهت،
طلبوا من الله أن يقبضهم إليه، فلبى الله نداءهم.
وجعل الله قصتهم عبرة، وذكرهم في سورة
سماها باسمهم: "الكهف". فيها آيات خالدة تتلى، تدعو للتأمل في الفتنة،
وفي الثبات على الدين، وفي أهمية الصحبة الصالحة، حتى لو كانت قليلة، لأن النجاة
لا تكون بالكثرة، بل بالحق.
ولم يحدد القرآن عددهم بدقة، بل قال:
"سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ…"، ليعلّمنا درسًا آخر:
أن التركيز على العدد والتفاصيل الثانوية يبعدنا عن الجوهر، وهو الإيمان والصمود
والثقة بوعد الله.
وما قصة أصحاب الكهف إلا إعلان رباني
بأن الشباب هم عماد التغيير، وأنهم حين يتسلحون بالعقيدة، ويواجهون الطغيان
بالإيمان، فإن الله نفسه يتولى أمرهم، يحفظهم، يرعاهم، ويجعلهم آية خالدة.
الكلب في قصتهم لم يكن مجرد تابع، بل
كان شاهدًا على الوفاء، ودليلًا أن الرفقة في طريق الحق لا تحتاج دائمًا إلى بشر،
بل إلى وفاء وإخلاص، حتى لو في هيئة كلب.
واليوم، في زمن المتغيرات، تظل قصة
أصحاب الكهف تطرق أبواب العقول والقلوب، تخبرنا أن الثبات في زمن الفتنة هو معجزة،
وأن الله ينصر الصادقين ولو بعد حين.
فهل نكون نحن "فتية هذا
الزمان"؟ وهل نملك الشجاعة لنحمل الراية، ونتمسك بالحق، ونهرب من الفتنة، حتى
لو إلى كهف معزول، بثقة أن الله لن يتركنا؟
هكذا تحيا القصص في القرآن، لا
للتسلية، بل لبناء الوعي، وزرع الإيمان، وإحياء روح المقاومة السلمية في وجه
الطغيان والفساد.
إنها قصة خالدة، لا تنتهي عند سردها،
بل تبدأ حين نقرأها ونفهمها، ونقرر أن نكون جزءًا منها في واقعنا، بإيمان صادق،
ورفقة مؤمنة، ووفاء ثابت، كما كان أصحاب الكهف وكلبهم.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك