أنتلجنسيا المغرب: هيئة التحرير
كانت صهيل خيلها يسبق حكاياتها، وظلال رمحها ترعب العدو قبل أن
تلمحه العيون. إنها الفارسة العربية الملثّمة، امرأة خرجت من عمق الصحراء، لم تعرف
للضعف اسماً، ولا للانهزام طريقاً. خاضت حروب الرجال بجبين مرفوع، وكأنها أسطورة
خرجت من بطون المخطوطات لتعيد كتابة التاريخ بسيفها.
لم تكن تخفي وجهها حياءً، بل كبرياءً. اللثام الذي زين ملامحها
كان درعاً من شموخ، لا لتخبئ أنوثتها، بل لتقول للعالم إنها المقاتلة التي لا
تنتظر استثناءات. كانت تطل على المعارك كالقدر، لا تلتفت إلى الوراء، ولا تعرف إلا
اتجاه الهجوم.
تربّت على صهوات الخيل، وعلّمت الرجال أن الفروسية ليست حكرًا
على الذكور، بل ميدان للشجعان. لم تكن زينب ولا خولة ولا عائشة مجرد أسماء في
التاريخ، بل كنّ نسخاً من هذه الفارسة، أو كانت هي امتداداً لهن، تمسك السيف بإحدى
يديها، والكرامة باليد الأخرى.
حين اشتد أوار المعارك، كانت أول من يندفع في وجه الرماح، ترسم
طريق النصر بحوافر فرسها وصيحاتها التي تشق السماء. لم تكن تطلب مجداً، بل كانت
تجسّد الوفاء للأرض، وللأمة، وللشرف الذي رفضت أن يدنّسه الطغاة.
قيل إنها قاتلت في اليمن، ووقفت على تخوم نجد، ثم حطّت رحالها
في الشام، فكانت سهمًا يطير من مكان لآخر. لم يعرف العدو من أين تأتي، ولا متى
تضرب، لكنها كانت دائماً هناك، حين يسقط الرجال، تنهض وحدها، تقاتل ألفًا دون أن
ترتجف.
كانت تُجلّ بين القبائل، لا تُعامل كأنثى بل كقائدة، وكان
الشيوخ يُنصتون لأمرها، لأنها أثبتت أن الشجاعة لا تُقاس بجسد، بل بعزيمة لا تلين.
كانت المُلهمة والمعلّمة، وكانت النساء يقلّدنها، ينسجن لثامًا ويعلّمن أطفالهن أن
البطولة لا جنس لها.
لم تترك خلفها قصورًا، بل أسطورة تتناقلها الجدات في الليالي
الطويلة. كلما جاء ذكرها، رفعت النساء رؤوسهن، وقالت الفتيات الصغيرات: نريد أن
نكون مثلها، لا مثل الأميرات المحبوسات في قصور الخوف.
كانت تؤمن أن الشهادة ليست موتًا، بل خلود. لذلك كانت تبتسم حين
يلمع حد السيف أمامها. لم تكن تخاف الجراح، بل تخاف أن يُقال يومًا إنها تراجعت.
حتى حين أصيبت، قيل إنها ضمدت جرحها بيدها، وعادت للقتال.
في إحدى المعارك، حاصرها الأعداء من كل صوب، فرفعت صوتها
بالزغاريد، حتى اعتقد الجنود أنها مدعومة بجيش قادم، فتراجعوا مرعوبين. لم تكن
الخدعة تكتيكًا، بل كانت عزيمة امرأة أرعبت الجيوش وحدها.
رفضت أن تكون غنيمة، أو تروى سيرتها كضحية. كانت تختار مصيرها
بحد نصلها، وتخط حدودها بطرف رمحها، لهذا بكتها الصحراء حين غابت، وغنت لها النوق
في الليالي، وأقسم الفرسان أن لا ينكروا جميلها أبدًا.
حين كانت تمر على المخيمات، كانت الأطفال يركضون خلفها، ليس
لأنها بطلة، بل لأنها كانت الأمل، كانت التي أثبتت أن المرأة ليست ظلًّا لرجل، بل
شعلة في قلب الظلمة. لم يكن يكفيها أن تُذكر، بل أرادت أن تُحفر في الذاكرة كرمز
لا يُمحى.
قيل إن أحد الأمراء حاول خطبتها، فقالت له: "لن أكون
خاتمًا في إصبع رجل، بل سيفًا في معصم أمة". فانسحب الأمير، وأدرك أن هذه
المرأة ليست لزواج، بل لقيادة تاريخ.
لم تكتب الشعر، بل كتبت السطور على الرمال بسن رمحها. كانت
قصيدتها طعنات مدروسة، لا تُخطئ هدفها، وكانت كلماتها قرارات حاسمة في زمن التردد.
كلما حاولت قبائل الطغاة إذلال قومها، كانت هي الجدار الذي لا
يُخترق، والصوت الذي لا يصمت. لم تعترف يوماً بالضعف، وكان حضورها يسبقها، مثل برق
يعلن عاصفة لا مفرّ منها.
لم يعرف أحد اسمها الحقيقي، فهي كانت تختار لنفسها أسماء في كل
معركة، مرة “سيف العرب”، وأخرى “ظل الصحراء”، وأحياناً “الملثّمة” فقط، وكأنها
أرادت أن تبقى رمزاً لا شخصاً.
يقال إن أحد جنرالات الأعداء كتب في مذكراته: "حاربنا
رجالًا أشداء، لكن أقسى هزائمنا جاءت على يد امرأة لم نرَ وجهها قط". تلك
كانت هي، الوجه الغائب الذي ملأ الساحة كلها بهيبته.
لم تكن تؤمن بالانسحاب، بل كانت تقول: "إما أن أنتصر، أو
أكون الرواية التي تُروى بعد كل هزيمة لنذكر من نحن". لذلك كانت النكسة تنكسر
أمامها، وتصبح بداية للثأر.
في كل زمان يُذكر فيه الرجال، هناك امرأة تُقصى من الحكاية، لكن
هذه الفارسة فرضت نفسها بالسيف، لا بالرجاء، وحفرت لنفسها مكاناً لا يُمحى، لأنه
كُتب بالدم لا بالحبر.
وإن كان التاريخ نسي أسماء
كثير من النساء، فإن هذه الفارسة العربية الملثّمة ستظل خالدة، لأن من قاتل وقاد
وواجه الموت وابتسم، لا يمكن أن يُمحى من ذاكرة الشعوب.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك