حين خيّم الهوى على القصر: إبنة الملك وسائس الخيول الذي صار فارسًا لا يُقهر

حين خيّم الهوى على القصر: إبنة الملك وسائس الخيول الذي صار فارسًا لا يُقهر
قصة قصيرة / الأحد 01 يونيو 2025 - 22:00 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب:هيئة التحرير

في الليالي التي يتألق فيها القمر وسط ظلمة المروج الملكية، كانت نافذة الأميرة "ليال" تبقى مفتوحة، تحدّق منها بنظرات شاردة صوب الاسطبل، حيث يتردد وقع خطوات خفيفة، وصوت خيول تعلو شهقاتها كلما اقترب ذاك الشاب الأسمر، الذي لا يُعرف له نسب ولا أصل سوى أنّه "سائس الخيول". لم يكن أحد يتخيل أن هذا الشاب المجهول، سيصير يومًا اسمه على كل لسان، يتردد في أسواق المملكة وحكايات العامة كفارس لا يُقهَر، بل ومعشوق أميرة!

لم تكن ليال كسائر بنات الملوك، لم يغوها الذهب، ولا فُتِنت بوسامة الأمراء. قلبها كان أشبه بجمرٍ تحت الرماد، يتوق لشيء مختلف، شيء من روح البراري لا من صقيع القصور. ومنذ رأت "جلال" أول مرة، وهو يمسح جبين فرس عجوز، ويهمس لها بكلمات لا تُفهم، أيقنت أن في هذا الشاب شيئًا لا تملكه كل جيوش أبيها مجتمعة.

جلال، كان غامضًا، لا يتكلم كثيرًا، لكن عينيه كانتا تسردان فصول حياة مليئة بالجراح. لم يكن يعرف أن خلف الستار المخملي الذي يُغطي شرفة القصر، تقف أميرة تراقبه كل ليلة، تحفظ حركاته، وتتنفس نَفَسه من بعيد. كانت تناديه في سرّها "سيد الخيول" وتكتب عنه شعرًا لا يليق إلا بعاشقة مذعورة من جنون الحب.

وذات مساء، غيّر القدر مساره، حين تعثرت الأميرة وهي تمشي خلسة في حديقة القصر، فسمع جلال صوت أنينها، فأسرع نحوها دون أن يعرف من تكون. حملها بين ذراعيه، بعينين لا تخافان العقاب، وقال لها بهدوء: "سلامتك يا آنسة...". حينها، تقاطعت الأرواح، واشتعلت جذوة لم تنطفئ بعدها أبدًا.

لم تبح ليال باسمها، ولم يسأل هو. لكن اللقاء تكرّر، مرة خلف الاسطبل، ومرة عند شجرة الرمان العتيقة. كانت تحادثه عن الخيول، عن النجوم، عن أحلامها في الهروب من كل هذا الترف والقيود. وهو، كان يكتفي بالاستماع، وحين ينظر إلى عينيها، يشعر أنه صار أكبر من مجرد خادم.

مع مرور الأيام، كانت ليال تُرسل له سرا كتبًا عن فنون القتال، ويدًا خفية كانت تدرّبه ليلًا على المبارزة والرماية. ولم يكن ذلك حبًا فقط، بل تمردًا صامتًا على قواعد المملكة التي ترفض أن يرتقي "السائس" إلى ما فوق نعله.

وفي إحدى الليالي، شن أعداء المملكة هجومًا مباغتًا على تخوم العاصمة، وفرّ الفرسان الرسميون، لكن جلال حمل سيفه وصعد على فرسه الرمادية، وتقدم الصفوف. لم يتردد لحظة، وكأنه خُلق لهذا اليوم. قاتل كما لو أنه لا يخشى الموت، بل كمن ينتظر خلاصه فيه.

عندما عاد منتصرًا، تهاوت هتافات الجنود، وانحنى له القادة، لكن الملك، حين علم بالأمر، لم يحتفل... بل صمت طويلاً. كان يعلم أن النصر صنعه يد "سائس الخيول"، الذي أصبح الآن رمزًا لا يمكن إخفاؤه. لم يكن الملك غبيًا، وكان يعرف أن ابنته التي تغيرت ملامحها، قد وقعت في المحظور.

طلب جلال المثول أمام العرش، لم يتلعثم، ولم ينحنِ، بل وقف بثقة وقال: "لم أحارب طمعًا في جاه، بل حبًا في أرض صارت لي وطنًا، وفي وجه جعلني أومن أنني لست مجرد خادم". كانت الأميرة تراقب من خلف الستار، ودموعها تسابق أنفاسها.

الملك، بعد صمت طويل، قرر أن يمنحه لقب "فارس المملكة"، وهي رتبة لا يحصل عليها إلا من يُثبت ولاءه بالدم لا بالنسب. صارت قصة جلال على كل لسان، وتحوّل من عامل يُنظّف أحذية الخيول، إلى رجل يحكم المعارك بكلمة واحدة.

لكن القصر لم يكن سهلًا، فالأعداء في الداخل أكثر من الخارج. تآمرت النخبة القديمة لإسقاطه، لكنه عرف أن الصعود لا يتم فقط بالشجاعة، بل بالدهاء. فبدأ يخوض حربًا أخرى، حرب السياسة، والمكر، والخداع، لكنها لم تلوّث قلبه، بل زادته نقاء.

وفي مساء خريفي، حين زُفّت الأميرة ليال إلى "فارس المملكة"، خرج الناس في احتفال لم تشهد له المملكة مثيلاً. كانت الزغاريد تتعالى من كل حواري العاصمة، أما الملك، فوقف شامخًا، ودمعة فخرٍ تختبئ خلف قسمات وجهه القاسي.

صارت ليال زوجة الفارس الذي أحبّته يومًا وهو يمسح عرق الفرس العجوز، وصار جلال رجلًا يضع تاجًا من المجد على رأسه لا من الذهب. قصة الحب التي بدأت خلف الاسطبل، تحولت إلى أسطورة تُروى للأطفال، وتُغنى على لسان الشعراء.

كان الحب عندهما بداية الثورة، لا نهاية الحكاية. لم يكن انتصار جلال فقط لأنه أحب، بل لأنه لم يقبل أن يبقى في الظل. ولأن ليال، رغم كل ما ورثته من ترف، آمنت أن القلب أصدق نسبًا من الدماء.

في آخر الحكاية، كان الاثنان يجلسان كل مساء عند شجرة الرمان، يتذكران البداية، حيث لم يكن هناك عرش ولا لقب، فقط شوق صادق، وحب أكبر من أسوار القصر.

وهكذا انتهت حكاية "سائس الخيول" الذي رفض أن يبقى حكاية هامشية في كتاب الملوك، فكتب بنفسه فصلاً جديدًا في تاريخ العشق والبطولة.

 

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك