
أنتلجنسيا المغرب: الرباط
في أحد الحقول الخصبة، كانت تعيش نملة مجتهدة لا تهدأ ولا تكلّ،
تسعى منذ مطلع الفجر لجمع ما يكفيها وما يكفي عشيرتها من الطعام والمؤونة، تدرك أن
الزمن دوار، وأن الأيام لا تستقر على حال واحد، فكانت تفكر في الغد أكثر مما
تستمتع باليوم. هذه النملة كانت ترى في العمل عبادة وفي الاجتهاد خلاصا من الجوع
والخوف.
وعلى الضفة الأخرى من الحقل، كان يعيش صرصار مرح لا يفكر إلا في
الغناء والرقص والتسلية، لا يكترث بشيء سوى بملء يومه بالمرح واللهو، مقتنعا أن
الغد سيحمل له رزقه دون عناء، وأن الطبيعة أكرم من أن تتركه جائعا. كان يستهزئ
بجهد النملة، يراقبها وهي تكد وتتعب في الحرّ والبرد، ثم يضحك قائلا: "أيتها
النملة المسكينة، لماذا تحرمين نفسك من متعة الحياة؟".
النملة لم تكن تنزعج من سخريته، بل كانت ترد بهدوء: "من
يعمل اليوم يجد غده آمنا، ومن يضيع يومه في اللهو يذوق مرارة الجوع غدا". لكن
كلماتها لم تكن تجد طريقها إلى عقل الصرصار الذي كان يرى في الجهد نوعا من
العبودية غير المبررة.
مرت أيام الصيف، وكانت الشمس ساطعة والحقول مليئة بالغلال.
النملة لم تتوقف يوما عن جمع الحبوب وتخزينها بعناية داخل جحرها، تفكر في الشتاء
القادم، بينما كان الصرصار يمرح بين الأغصان ويغني بلا همّ، مقتنعا أن الطعام لن
ينقطع أبدا وأن الدهر سيبقى سخيا معه كما هو الآن.
كلما مرّ بجانب النملة، وجدها منحنية على حبّة قمح أو شعيرة،
فيزداد استهزاءه قائلا: "لماذا تشقين على نفسك؟ تعالي غنّي معي واستمتعي
بالشمس والهواء". لكنها كانت تبتسم وتعود إلى عملها، واثقة أن الزمن كفيل بأن
يكشف له الحقيقة.
حلّ الخريف وبدأت الحقول تفقد خصوبتها، الأوراق تساقطت والبرد
بدأ يتسلل إلى الأجواء. النملة ازدادت نشاطا، لأنها تعلم أن أيام الوفرة أوشكت على
الانتهاء، بينما ظل الصرصار غارقا في غفلته لا يفكر إلا في متعته اليومية.
ثم جاء الشتاء، وجاء معه البرد القارس والثلج الذي غطى الأرض.
الأشجار عارية، والحقول خاوية، والحبوب التي كانت تملأ الأرض لم يعد لها أثر. هنا
فقط، بدأ الصرصار يشعر بخطر لم يحسب له حسابا. خرج يبحث عن طعام، لكن البرد أضعفه
والجوع أرهقه.
في المقابل، كانت النملة داخل جحرها الدافئ، لديها ما يكفيها من
الطعام لتبقى آمنة حتى حلول الربيع. كانت تراقب الثلج المتساقط من فتحة جحرها،
مطمئنة أنها لن تعاني من الجوع.
في إحدى الليالي الباردة، طرق الصرصار باب جحر النملة، يرتجف من
شدة البرد والجوع. قال لها بصوت متهدج: "أيتها النملة، أرجوك أنقذيني، لقد
أخطأت حين استهنت بعملك ولم أدخر شيئا، والآن أنا على وشك الهلاك".
النملة نظرت إليه بعطف وقالت: "لقد كنت أُحذرك مرارا، وكنت
أقول لك إن الأيام لا تدوم على حال. لكنك اخترت اللهو بدل العمل، فهل تتوقع أن تجد
ما لم تزرع؟".
الصرصار انحنى خجلا من نفسه وقال: "أعلم أني كنت أحمقا،
لكن سامحيني، أعطني فرصة ثانية". حينها قررت النملة أن تعلّمه درسا مزدوجا؛
لم تغلق الباب في وجهه، بل أعطته قليلا من الطعام، لكنها اشترطت أن يساعدها في
ترتيب المؤونة ونقلها من ركن لآخر، حتى يشعر بمعنى العمل وقيمة الجهد.
بدأ الصرصار لأول مرة يشارك في عمل حقيقي، كان يشعر بثقل المهمة
لكنه في الوقت نفسه يتذوق لأول مرة طعم الجدّ. ومع مرور الأيام، تعلم أن الحياة لا
تقوم على الغناء فقط، بل على التوازن بين العمل والراحة.
الشتاء الطويل انتهى، وحل الربيع من جديد، هذه المرة لم يكن
الصرصار كما كان. لقد تعلّم من محنته، فصار يجمع الحبوب مع النملة، يغني أحيانا
لكن بعد أن ينهي عمله. لم يعد يرى في العمل سجنا، بل طريقا للحرية من الحاجة
والفقر.
النملة ابتسمت في سرها وهي تراه يتغير، وقالت لنفسها: "لقد
كان عنيدا، لكن التجربة هي أعظم معلم".
القصة لم تعد مجرد حكاية بين صرصار ونملة، بل أصبحت درسا في أن
الاستهتار لا يقود إلا إلى الهلاك، وأن الجد والاجتهاد هما السبيل للكرامة
والطمأنينة.
الصرصار لم ينس فضل النملة، فصار يردد لكل من يلتقيه: "من
لا يعمل في أيام الرخاء سيجوع في أيام الشدة، ومن لا يتعلم من النملة سيبقى أسير
غفلته".
ومنذ ذلك الحين، صار الصرصار مثالا للتحول من اللهو إلى الجد،
وصارت النملة رمزا للحكمة والصبر.
وظلت الحقول شاهدة على قصة تكررت عبر الأجيال، تُروى للأطفال
والكبار لتذكرهم أن التوازن بين العمل والراحة هو سر الحياة، وأن من يزرع يجني،
ومن يهمل يجني الحسرة.
وهكذا، تحولت حكاية الصرصار والنملة إلى درس خالد، يعلّم الناس
أن الحكمة في اغتنام الوقت، وأن العمل في أوانه يقي من الندم في المستقبل.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك