الزير سالم وأخوه.. ملحمة الدم والانتقام التي غيرت تاريخ العرب

الزير سالم وأخوه.. ملحمة الدم والانتقام التي غيرت تاريخ العرب
قصة قصيرة / الأربعاء 03 سبتمبر 2025 - 22:55 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد الشباب المجيد

أنتلجنسيا المغرب: هيئة التحرير

ارتبط اسم الزير سالم، أو المهلهل بن ربيعة، بواحدة من أضخم الملاحم التي عرفها العرب في الجاهلية، حيث تداخلت في قصته ملامح البطولة والشجاعة والحب والوفاء، مع نيران الثأر والانتقام التي لم تخمد إلا بعد أن أحرقت الأخضر واليابس. لقد كانت حكايته مع أخيه كليب بداية لحرب طويلة سالت فيها الدماء وتفرقت فيها القبائل، حتى صارت مضرب الأمثال في الغدر والانتقام والولاء.

كان كليب أخ الزير سالم زعيماً عظيماً لقبيلة تغلب، يتميز بالهيبة والقوة، وقد بلغ من المكانة ما جعله سيداً مطاعاً بين القبائل، حتى قيل إنه لم يكن أحد يجرؤ على تحديه. وقد أحب الزير سالم أخاه حبا شديداً، وكان يرى فيه السند والدرع الواقي، غير أن القدر خبأ لهما مأساة ستغير مجرى حياتهما إلى الأبد.

اندلعت شرارة الخلاف بين كليب ورعيان من بني بكر، وكانت البداية حينما قتلت ناقة البسوس، وهي خالة جساس بن مرة. وقد تحول هذا الخلاف البسيط إلى مأساة عظمى عندما أقدم جساس على قتل كليب غدراً، وهو الفعل الذي صدم الزير سالم وأشعل في قلبه نيران الثأر.

حين سقط كليب قتيلاً على يد ابن عمه، لم يتوقف الزير سالم عن البكاء والنواح، لكنه سرعان ما مسح دموعه، وأقسم بالله والدم والعرض أنه لن يهدأ له بال حتى يأخذ بثأر أخيه، ولو كلفه الأمر سنوات من الحرب الطويلة. ومنذ تلك اللحظة تحول الزير إلى فارس أسطوري، لا يعرف الرحمة ولا يقبل المصالحة.

كانت القبائل جميعها تترقب ما سيحدث بعد مقتل كليب، إذ أن الجميع كان يعلم أن المهلهل لن يرضى بالذل، ولن يسمح بأن يمر الدم بلا حساب. وبالفعل، سرعان ما دعا رجال تغلب إلى حمل السلاح، وأعلن بداية الحرب التي عرفت لاحقاً بـ"حرب البسوس"، إحدى أطول وأعنف حروب العرب قبل الإسلام.

خاض الزير سالم المعارك تلو المعارك ضد بني بكر، وكان يقود جنده بنفسه، يصول ويجول في ميادين القتال، يرفع صوته بالشعر والفخر، محرضاً قومه على الصمود والقتال. وقد اشتهر بجرأته حتى صار اسمه يثير الرعب في قلوب أعدائه، وصارت بطولاته تروى في المجالس والمنتديات.

لم يكن الزير مجرد محارب، بل كان شاعراً فذاً يسجل بلسانه مآسي الحرب وانتصاراتها، وكان شعره بمثابة سلاح روحي يشعل الحمية في نفوس مقاتليه، ويورث الرعب في قلوب خصومه. ومن أبياته الشهيرة تلك التي يذكر فيها أخاه كليباً، متوعداً بدمه، ومؤكداً أن روحه لن تستريح إلا حين يثأر له.

مرت السنوات، وتواصلت المعارك، وسالت الدماء بغزارة، حتى أن العرب ضربوا بحرب البسوس المثل في طولها وشدتها. ولم يكن الزير ليهدأ أو يتراجع، فقد جعل من نفسه أسيراً للانتقام، لا يرى إلا صورة أخيه القتيل أمام عينيه. لقد تحول إلى رمز للقوة المدمرة التي لا يوقفها شيء سوى تحقق الثأر.

لكن هذه الحرب الطويلة لم تجلب إلا الدمار، إذ تشتت القبائل وضاعت الأموال وهلكت الأنفس، حتى صار الجميع يلعن اليوم الذي قتلت فيه ناقة البسوس، ذلك الحدث البسيط الذي تحول إلى كارثة كبرى. وهنا يبرز البعد المأساوي للقصة، حيث يظهر كيف يمكن لغضب شخص واحد أن يغير مصير أمة بأكملها.

لم يكن الزير سالم غافلاً عن ثقل الدماء التي تسيل، لكنه كان يرى أن كرامة أخيه أغلى من الأرواح كلها. لقد جسد صورة العربي الأصيل الذي لا يرضى المهانة، ولو دفع حياته كلها ثمناً لذلك. وكان لهذا الإصرار أثره الكبير في صمود قومه وتغلبهم في أكثر من معركة.

غير أن الأقدار شاءت أن تدور الدائرة على الزير نفسه. فقد طال به الزمن، وخارت قواه، وأصابه الضعف بعد أن أفنى شبابه في القتال. وحين ضعف سهل على أعدائه أن ينالوا منه، فتآمروا عليه وخدعوه، حتى انتهت حياته في غربة ووحدة، بعيداً عن المجد الذي عاش له.

قصة الزير سالم مع أخيه ليست مجرد حكاية عن حرب وثأر، بل هي مرآة تعكس طبيعة المجتمع العربي في الجاهلية، حيث كانت العصبية القبلية والثأر شريعة قائمة، وحيث كانت حياة رجل واحد كفيلة بإشعال حرب تدوم أربعين عاماً.

لقد بقي الزير سالم رمزاً للشجاعة والوفاء، ورمزاً كذلك للمأساة التي يولدها العناد والثأر. فحياته كانت سلسلة من البطولات، لكنها أيضاً سلسلة من الخسارات. انتصر في المعارك، لكنه خسر نفسه وأهله وعمره في سبيل دم أخيه.

ومن خلال قصته، نستطيع أن نفهم كيف كانت القيم في ذلك الزمن تتحكم في مصائر الرجال والقبائل، حيث يختلط الحب بالدم، والوفاء بالانتقام، والشعر بالحرب، حتى تكاد الحياة كلها تكون معركة لا نهاية لها.

الزير سالم لم يمت كفارس عادي، بل تحول إلى أسطورة، تتناقلها الألسن وترويها الأجيال، ليظل عبرة لكل من تسول له نفسه أن يغدر، وليبقى شاهداً على خطورة الثأر حين يتحول إلى لعنة لا نهاية لها.

ومع أن القرون قد مضت على وفاته، فإن قصته ما تزال حية، تستعاد في الكتب والمسرحيات والمسلسلات، وتبقى محفورة في وجدان العرب كرمز من رموز الكبرياء والمأساة.

لقد علمتنا حكاية الزير سالم أن القوة قد تمنح المجد، لكنها لا تجلب السعادة، وأن الثأر قد يبرد القلب لحظة، لكنه يحرق الروح مدى الحياة.

فإذا كان كليب قد رحل غدراً، فإن الزير رحل أسيراً لدم أخيه، ليصبح كلاهما ضحية لعصر لم يعرف معنى العدل، بل كان يحتكم إلى السيف والدم فقط.

وهكذا، فإن قصة الزير وأخيه ستظل علامة فارقة في تاريخ العرب، تجسد بطولاتهم ومآسيهم في آن واحد، وتذكرنا دائماً أن الدم لا يجلب إلا الدم، وأن الثأر قد يخلد اسماً، لكنه يدمر أمة بأكملها.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك