"زنوبيا" ملكة الصحراء التي أركعت قيصر روما على رُكبتيه

"زنوبيا" ملكة الصحراء التي أركعت قيصر روما على رُكبتيه
قصة قصيرة / الخميس 17 يوليو 2025 - 00:05 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب: هيئة التحرير

في قلب الشرق المشتعل، وفي زمن كانت فيه روما تتسيّد العالم، برزت امرأة من بادية تدمر، كسرت الهيبة الإمبراطورية، وأعلنت تحديًا لم يجرؤ عليه ملوك الشرق، فكانت زنوبيا، الملكة السورية التي دوّخت روما وقهرت قيصرها.

في تدمر، المدينة التجارية التي ارتفعت بين رمال الصحراء كجوهرة متلألئة، عاشت زنوبيا، أرملة الملك أذينة، لكنها لم ترضَ أن تكون مجرد ظلٍّ لرجل، فنهضت على أنقاض الضعف، وأسست إمبراطورية لم تعرف النساء طريقها من قبل.

منذ أن تولّت السلطة بعد اغتيال زوجها، حملت زنوبيا طموحًا إمبراطوريًا جعلها تصوغ مستقبلًا جديدًا للشرق، فمدّت نفوذها من تدمر إلى مصر، ومن الشام إلى آسيا الصغرى، متحدّية بذلك روما ذاتها.

لم تكن مجرد ملكة جميلة بذكاء خادع كما صوّرها الرومان، بل كانت قائدة عسكرية صارمة، تتحدث عدة لغات، تقرأ الفلسفة، وتحيك الخطط بدقة رجال الدولة.

أعلنت زنوبيا استقلال تدمر عن روما، ورفضت دفع الجزية، وبدأت بإصدار عملة تحمل صورتها بدلًا من صور الأباطرة الرومان، في تحدٍّ سافر للهيبة القيصرية.

في خضم هذا التحدي، لم يقف قيصر روما، أورليان، مكتوف اليدين، بل رأى في زنوبيا خطرًا على وحدة الإمبراطورية، فقرر شنّ حرب شرسة لاستعادة الشرق.

قاد أورليان جيشًا جرّارًا، عبر به الأناضول، مصممًا على سحق التمرد، فيما كانت زنوبيا تحشد الرجال وتستعد لمعارك المصير دفاعًا عن كرامة الشرق.

وقعت المعركة الكبرى قرب حمص، حيث التقت جحافل روما بجيوش تدمر، ودارت معركة طاحنة أظهرت فيها زنوبيا بسالة نادرة، لكنها خسرت الأرض بسبب خيانة بعض القادة.

لم تهرب زنوبيا من أرض المعركة، بل انسحبت إلى تدمر لإعادة تنظيم الصفوف، لكنها سرعان ما وجدت نفسها محاصرة داخل المدينة، بدون مؤونة ولا دعم خارجي.

حاولت الفرار شرقًا لطلب الدعم من الفرس، لكن قوات أورليان طاردتها في الصحراء، وألقت القبض عليها وهي على ضفاف الفرات، منهكة الجسد، شامخة الرأس.

اقتيدت زنوبيا إلى روما، وهناك أراد أورليان أن يجعل منها مشهدًا للنصر، فساقها في موكب الذل، مقيّدة بسلاسل من الذهب، لكن الحشود صُدمت بجمالها وكبريائها.

لم تنكسر زنوبيا في لحظة الأسر، بل وقفت أمام آلاف الرومان وكأنها المنتصرة، فانهالت الأشعار والروايات تمجيدًا لها حتى من خصومها.

يروي بعض المؤرخين أنها أُعدمت بعد العرض، بينما تقول روايات أخرى إنها عاشت في فيلا نائية وتزوجت من روماني نبيل، لكنها بقيت في نظر التاريخ، الأسطورة الشرقية التي أرعبت الغرب.

كانت حرب زنوبيا مع قيصر روما حربًا حضارية بامتياز، صراعًا بين استقلال شرقي وسلطة غربية، جسدتها امرأة كسرت قاعدة التاريخ.

تحالفت زنوبيا مع العقول والتجار والعسكريين، واستطاعت في بضع سنوات أن تبني قوة ضاهت روما، وتحدّت منظومتها السياسية والعسكرية.

لم تكن ثورتها عبثية، بل مخططًا مدروسًا لإقامة كيان سياسي مستقل، يحترم هوية الشرق ويعيد للتدمر دورها التاريخي في مفترق طرق الحضارات.

حتى يومنا هذا، تظل زنوبيا مصدر إلهام للحركات التحررية في العالم، نموذجًا للمرأة التي تتجاوز أدوارها التقليدية وتقتحم ميدان السلطة والمقاومة.

رغم هزيمتها العسكرية، فقد حققت نصرًا رمزيًا ضخمًا، إذ لم تُنسَ في كتب التاريخ، بينما محا الزمان أسماء كثير من قادة روما.

لقد غيّرت زنوبيا معادلة القوة في زمنها، وأجبرت القيصر على القدوم بنفسه للشرق، وهو ما لم يحدث إلا في حالات الطوارئ الكبرى.

بنت شبكة تحالفات واسعة مع مصر والأناضول، وكانت تسعى لتحويل تدمر إلى مركز حضاري جديد ينافس القسطنطينية وروما.

كانت تؤمن بالعدالة الاجتماعية، وخفّفت الضرائب عن الفلاحين، وأعادت توزيع الثروات، وهو ما أكسبها حب الطبقات الشعبية.

بقيت تدمر في عهدها ملاذًا للفلاسفة والشعراء والتجار، فجمعت بين صلابة الحكم ورقي الحضارة، ما جعلها شوكة في حلق روما.

حاولت روما تشويه صورتها بعد سقوطها، فوصفوها بالمتغطرسة والطامعة، لكن آثارها وتماثيلها تحكي رواية مختلفة: امرأة حكمت بعقل حديدي وقلب شجاع.

تدل الحفريات والوثائق التاريخية أن نظام حكمها كان منظمًا ومبنيًا على العدالة، وأنها أسست مؤسسات حكم مستدامة حتى بعد رحيلها.

أخذت على عاتقها مسؤولية الدفاع عن كرامة الشرق، وواجهت إمبراطورية تمتد من المحيط الأطلسي إلى بلاد ما وراء النهرين.

رغم كل الحملات العسكرية التي واجهتها، لم تسقط تدمر من الداخل، بل كانت الخيانة والخذلان من بعض رجالاتها السبب في سقوطها.

علّمت زنوبيا التاريخ درسًا قاسيًا: لا يمكن الاستهانة بطموح امرأة مثقفة، تعرف موقعها من الجغرافيا، وتقرأ تحوّلات الزمن.

لقد كانت زنوبيا صوت الشرق في مواجهة غرور الغرب، عنوان كرامة في زمن الانبطاح، وصرخة حرّة في وجه الطغيان.

كل من يتأمل اليوم في خرائب تدمر، يرى فيها بقايا مجدٍ لم يُهزم، بل تآمر عليه الزمن، لكن روحه لا تزال ترفرف في الصحراء.

في زنوبيا، اجتمع الحُسن والدهاء، القوة والعدل، الحزم والمرونة، فسجلت اسمها في كتب التاريخ بحبر من نور ومجد من نار.

هكذا تحوّلت ملكة بدوية إلى رمز عالمي، وصارت أيقونة نضال لا تنكسر، رغم محاولات العتمة أن تطمس بريقها، لكنها بقيت خالدة، بخلود حلمها الكبير.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك