أنتلجنسيا المغرب: هيئة التحرير
في أحد أزقة المدينة العتيقة، حيث
تعبق الجدران برائحة الماضي، عاش رجل يُدعى الزيات. لم يكن اسمه الحقيقي، لكن أهل
الحي أطلقوا عليه هذا اللقب لأنه كان يملك معصرة زيت زيتون قديمة ورثها عن أبيه،
وورث معها سرًّا لا يعرفه غيره: حب التكديس والبخل المرضي.
الزيات كان يملك خزانًا مملوءًا بأفضل
أنواع الزيت، مصفى كما العسل، بلون الذهب السائل. كل من ذاقه قال إنه لا يُضاهى،
لكن أحدًا لم يره يتذوقه. كان يبيع اللتر بدرهم أكثر من السوق، وإذا طلبت منه نقطة
تذوق، عبس وجهه كأنك طعنته في كبده.
كان يمر من أمام بائع الفطائر فيتنهد،
ثم يفتح كيسه الصغير ويخرج خبزًا يابسًا، يأكله جافًا بلا زيت ولا مرافقة. وكلما
رآه الأطفال، تساءلوا: "كيف لرجل يسبح في الزيت أن يغمس خبزه في الجفاف؟".
الزيات الشحيح لم يكن فقيرًا، بل كان
يُعرف بأنه من أكثر رجال الحي مالًا. لكنه كان يحتفظ بنقوده داخل حفر في الجدران،
ويخزن الزيت في جرار مغلقة بإحكام، لا يفتحها إلا لزبون يحمل الثمن كاملًا، زائد
نصف درهم على حساب الرائحة.
وذات شتاء قارس، جفّ الزيت في السوق،
وارتفع ثمنه حتى صار كالنبيذ المعتّق. وتهافت الناس على معصرة الزيات، يتوسلون،
يطلبون فقط ربع لتر. لكنه ظل متمسكًا بمبدئه: "الدفع أولًا، لا تذوق، ولا
سؤال، ولا خصم".
وذات ليلة، اشتد البرد حتى تجمدت
الأنفاس في الهواء. وتسلل الزيات إلى معصرته، وجلس قرب الجرار يتأملها. وضع إصبعه
على الحافة، وتردد... ثم مسح الزيت بكمّه، وأغلقها. عاد إلى منزله، أخرج الخبز
اليابس، ومضغ لقمة ببطء وكأنها عقاب.
أخبره أحد الجيران أن الزيت يعالج
البرد، وأنه في حاجة لملعقة فقط. لكن الزيات أدار وجهه وقال: "لو أعطيت ملعقة
لكل بارد، نفدت الجرار قبل الصيف".
وفي يوم جمعة، اجتمع شيوخ الحي وقرروا
مقاطعته. أعلنوا أن من يشتري من الزيات، فقد خان جيرانه. فانخفض الطلب، وتعفنت بعض
الجرار من قلّة التهوية. وبدأ الزيات يشعر بالخسارة التي لم يحسب لها حسابًا.
حاول أن يبيع لتجار من خارج الحي،
لكنهم سمعوا بالحادثة ورفضوا. فجلس في دكانه صامتًا، يراقب الزيت يتبخر، وماله
يُحتبس في جدران لا تشعر بالجوع ولا تعرف الدفء.
وفي أحد الأيام، دخل عليه طفل صغير،
نحيل كالقصب، وقال له: "يا عم، أعطني ملعقة زيت لأمي المريضة، ليس معنا مال،
لكنني سأدعو لك كل ليلة". نظر الزيات في عيني الطفل، فأحس بحرقة غريبة في
قلبه، لكنه طرد الطفل.
في المساء، سمع صوت نحيب من بيت
الطفل. كانت أمه قد فارقت الحياة. لأول مرة، شعر الزيات بالزيت يحترق في عروقه بدل
أن يُدفئه. خرج في الليل، حمل جرة، وسكب الزيت أمام بيت الطفل.
لكن الناس لم ينسوا. صار الأطفال
يغنون في الأزقة: "الزيات الشحيح.. باع الخير وراح ينوح". وكان كل من مر
قرب معصرته، يسد أنفه لا من الرائحة، بل من الخزي.
مات الزيات وحيدًا، وترك المعصرة
مغلقة. فتحها الناس بعد موته، فوجدوا الزيت قد تعفن، والجرار مملوءة بالسواد،
كأنها قلبه.
وبقيت قصته عبرةً لكل من يمتلك النعمة
ويمنعها، لكل من يملك الخير ويأكله حافًا. فالزيت إن لم يُسَخَّر لليد الممدودة،
سيتحول إلى مرارة في قلب صاحبه.
وهكذا أصبح الزيات الشحيح حكاية تُروى
على الأرصفة، وتُكتب على جدران المدينة درسًا لا يُمحى.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك