العنقاء: الطائر الأسطوري الذي يحترق ليبعث من رماده

العنقاء: الطائر الأسطوري الذي يحترق ليبعث من رماده
قصة قصيرة / الجمعة 01 أغسطس 2025 - 22:55 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد العرش المجيد

أنتلجنسيا المغرب: الرباط

العنقاء، ذلك الطائر العجيب الذي دوّخ العقول وشغل الخيال البشري عبر قرون، لم يكن مجرد أسطورة تُروى على ألسنة الحكماء أو في حكايات الشعوب، بل كان مرآة رمزية لرحلة الألم والتحول والانبعاث، رمزًا خفيًا للنهضة من وسط الركام، والصعود من العدم، والخلود وسط الفناء.

كانت العنقاء في المخيلة الشرقية طائرًا ضخمًا ذا ألوان زاهية وريش متلألئ، لا يشبه شيئًا من المخلوقات، يعيش مئات السنين في عزلة وفوق قمم شاهقة، لا يُرى إلا نادرًا، لكنه حين يظهر، يحمل نبوءة، أو يمهّد لتحوّل. وفي نهاية عمره، لا يهرم كما يهزمه الزمان، بل يختار الاحتراق بنفسه، داخل عش يبنيه من أغصان شجر الطيب والعنبر، ويحول نفسه إلى رماد، ليخرج منه طائر جديد، أقوى وأكثر بهاءً.

ظهرت حكاية العنقاء في الثقافات القديمة من مصر الفرعونية إلى فارس القديمة والصين والهند، مرورا بالحضارات الإغريقية والرومانية، حتى صارت فكرة "الاحتراق للبعث" رمزًا عالميًا للنهضة بعد الانهيار. فالفراعنة تحدثوا عن طائر "البنو"، شبيه بالعنقاء، يولد كل 500 عام من نفسه. والإغريق سموه "الفينيق"، واعتبروه مخلوقًا خياليًا ناريًا، يبعث برسالة إلى من يتجرأ على السقوط بأن القيامة ممكنة بعد الموت.

تقول بعض الأساطير إن العنقاء لا تحط أبدًا على الأرض، ولا تأكل مما تأكله الطيور، بل تتغذى على نور الشمس وعبير الزهور، وتحلق في طبقات الجو العليا، بحثًا عن الصفاء. لا تتكاثر كباقي الكائنات، بل تلد نفسها من رمادها، وتنتصر دائمًا على الزمن.

ربط الحكماء في الثقافات الروحية بين قصة العنقاء وتجربة الإنسان مع الألم والتحول. فالعنقاء، في معناها المجازي، تمثل الإنسان الذي يمر بكارثة، فينهار، لكنه لا ينكسر، بل يُعيد خلق نفسه، من قلب المحنة، ويولد من جديد بإرادة لا تقهر. وفي الأدب الصوفي، استخدمها المتصوفة رمزًا للذات العاشقة التي تُفنى في المحبة لتُولد من جديد على نور الحقيقة.

ولم يكن غريبًا أن نجد حضور العنقاء في الأدب العربي القديم، حيث كانت توصف أحيانًا بطائر "الخُلد" أو "العنقاء المُغرب"، وهي كائن خرافي لا يُرى، ويُضرب به المثل في الندرة والغرابة. قال عنها العرب: "أندر من العنقاء المُغرب"، تعبيرًا عن المستحيل، عن الشيء الذي يُحكى عنه ولا يُمس.

ومع تطور العصر الحديث، تحوّلت العنقاء من مجرد طائر أسطوري إلى فكرة فلسفية ونفسية، وأصبحت رمزا في الأدب والفن، وحتى في علم النفس التحليلي، إذ اعتُبرت تشبيهًا لحالة "الموت الرمزي" الذي يعيشه الإنسان حين يمر بصدمات قاسية، ثم يستعيد نفسه من جديد أكثر وعيًا ونضجًا.

في الميثولوجيا الصينية، تحمل العنقاء اسم "فينهوانغ"، وتُعتبر رمزًا للسلام والحكم الرشيد، وتظهر حين يكون الحاكم عادلًا والناس في رخاء. وهي أيضًا قرينة التنين، ترمز إلى التوازن بين القوى، فالطائر يمثل السماء، والتنين يمثل الأرض، وإذا ظهرا معًا، كانت الدولة في ازدهار.

وفي العصر الحديث، استخدمت السينما والكتب والموسيقى مفهوم العنقاء لتعزيز قيم المقاومة والتحوّل الشخصي، فنجدها في أفلام مثل "هاري بوتر"، حيث يظهر طائر العنقاء "فوكْس" ينقذ الأبطال، ودموعه تشفي الجراح، ويموت فقط ليبعث من رماده من جديد. وفي الروايات، تصبح رمزًا للمرأة التي تتجاوز ألم الفقد، أو البطل الذي يعود أقوى من خيباته.

قصة العنقاء لم تكن أبدًا مجرد حكاية طائر خرافي، بل كانت وما تزال استعارة قوية لروح التحدي في وجه الدمار، ورسالة موجهة لكل من يظن أن النهاية قادمة، بأن كل نهاية قد تكون بداية أخرى أكثر دهشة وجمالًا.

من قلب النار، يولد النور. ومن تحت الرماد، ينبثق اللهيب. ومن عمق الفقد، تُخلق القوة. هذا هو درس العنقاء، الذي لا يفقد قيمته مهما تغير الزمن، لأنه يمس شيئًا جوهريًا في النفس البشرية: الرغبة في الخلود رغم الفناء، والنهوض رغم السقوط.

وهكذا، حين تنهار الأشياء، ويبدو أن كل شيء انتهى، قد يكون الوقت قد حان لأن نكون مثل العنقاء. أن نختار رمادنا، وأن نصنع من احتراقنا أجنحة، لنحلق بها من جديد في فضاء لا حدود له.

العنقاء لا تموت، بل تختار أن تحترق، فقط كي تعود أقوى. وهذا ما يجعلها خالدة.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك