
أنتلجنسيا المغرب: الرباط
كان الصياد الفقير "سلام"
يخرج كل صباح إلى الشاطئ ببنطاله المرقّع وشبكته المثقوبة، يصارع الموج ويعود بما
قلّ أو ندر. لم يكن له من الدنيا سوى كوخ خشبي على أطراف القرية وسمك يابس يسد به
الرمق.
وذات مساء، وبينما كان سلام يرمي
شبكته في عمق البحر، شعر بشيء ثقيل كأنه حجر كريم أو صنارة السماء. سحب الشبكة بكل
ما أوتي من قوة، فإذا بها تحتوي على فتاة فاتنة، مبللة الشعر، بعيون لا تشبه أعين
البشر، ترتجف وسط الشباك وتحدّق فيه دون خوف.
قالت له بصوت ناعم: "لقد
اصطدتني، ولكنك لم تؤذني… وأنا لست كبقية المخلوقات". تردّد لحظة، ثم قطع
خيوط الشبكة وحرّرها، فابتسمت وقالت: "أنا جنية البحر، ولست أبحث عن الحرية
فقط، بل عن رجل بقلبك".
غابت لحظات وسط الموج، ثم عادت بثوب
أبيض ناصع ورائحة زهر لم يشمها من قبل، وقالت: "إن رضيت بي زوجة، جعلت لك
البحر مطيعًا، والرزق جاريًا، والناس يهابون فقرك". لم يصدق ما سمع، لكنه قبل
العرض، لا طمعًا في المال، بل لأن عينيها لم تكذب.
في اليوم التالي، دخل سلام البحر
كعادته، فرمى شبكته، فإذا بها تمتلئ بالأسماك الغريبة والثمينة، لم يرَ مثلها من
قبل، وكلما عاد للشاطئ زاد الناس دهشة، وبدأت أخبار "الصياد المحظوظ" تنتشر
في القرية.
اشترى قاربًا جديدًا، وبنى بيتًا على
تلة تُشرف على البحر، لكنه لم ينسَ جذوره. ظل بسيطًا، كريمًا، يوزع من صيده على
الأرامل واليتامى، ولم يكشف سره لأحد.
كانت الجنية تظهر له كل ليلة، تطبخ
له، تسهر بجانبه، وتحكي له حكايات البحر والكنوز المدفونة، والأمواج التي تحفظ
أسرار البشر. لكنه لم يكن يراها في النهار، ولم تخرج يومًا من البيت.
وذات يوم، قرر بعض الرجال الحاقدين أن
يكتشفوا سر سلام. راقبوه، وتسللوا إلى بيته، فإذا بهم يرون امرأة ليست من عالمهم،
تتكلم لغة غريبة وتغني للبحر. حاولوا الإمساك بها، فاختفت وسط بخار أبيض.
حين عاد سلام، وجد البيت خاويا.
نادها، فلم تجبه. بكى طويلاً، ونزل إلى البحر صارخًا باسمها، لكنه لم يتلقَ سوى
صدى الموج.
في الليلة الموالية، خرج في قاربه دون
صيد، ورمى نفسه في عمق البحر، كأنما أراد أن يلتحق بعالمها. لكن البحر لفظه حيًا
على الشاطئ، وعلى صدره قلادة من المرجان كتبت عليها: "إن كنت صادقًا،
فانتظرني في المكان الذي بدأ فيه كل شيء".
عاد إلى الصخرة التي رمى عندها الشبكة
أول مرة، وانتظر. مرّت أيام وهو لا يتحرك. وفي مساء اليوم السابع، ظهرت من عمق
البحر، كما ظهرت أول مرة، لكن بثوب أزرق مضيء.
قالت له: "القلوب الصادقة
تُختبر، ومن يصبر على فراقنا نمنحه الخلود في حبّنا". ثم مدت يدها نحوه،
وأخذته معها إلى الأعماق.
اختفى الصياد من القرية، لكن البحر
ظلّ يرسل خيره كل يوم إلى الأكواخ الفقيرة، وكأن الجنية لم تأخذ سلام وحده، بل
أخذت معها سر الكرم والوفاء.
منذ ذلك اليوم، لا أحد يرمي شباكه عند
تلك الصخرة، احترامًا لصياد أحبّ مخلوقة من بحر... ففتحت له أبواب المجد والدهر.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك