سليمان وسرّ الهيمنة على مملكة الجن.. النبي الذي أمر فسُخّرت له الجبال والرياح والمردة في خدمته

سليمان وسرّ الهيمنة على مملكة الجن.. النبي الذي أمر فسُخّرت له الجبال والرياح والمردة في خدمته
قصة قصيرة / الثلاثاء 05 أغسطس 2025 - 22:55 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد العرش المجيد

أنتلجنسيا المغرب:هيئة التحرير

في تاريخ الأنبياء، تقف قصة نبي الله سليمان عليه السلام كأحد أعجب القصص التي تثير التأمل والذهول، ليس فقط لما فيها من دلائل النبوة والتمكين، بل لما تحمله من أسرار الهيمنة على قوى لا تُرى، وعلى جنود لا يُقاسون بميزان البشر، فقد سخر الله له الجن، وأخضع له الشياطين، وجعل له السيطرة على الرياح والطيور، ليكون آية على قدرة الله المطلقة.

ولد سليمان عليه السلام في بيت النبوة، فهو ابن نبي الله داوود، وقد ورث عنه النبوة والعلم والحكمة، وازدادت منزلته عند الله حين طلب منه شيئاً لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب له الله ومنحه ملكاً لا مثيل له، وأخضع له مخلوقات لم تُسخَّر لبشر قبله ولا بعده، ومن بينهم الجن الذين كانوا يعملون بأمره بلا تردد ولا نقاش.

الجن في زمن سليمان لم يكونوا مجرد مخلوقات غيبية، بل كانوا قوى عاملة حقيقية، وظفها النبي لصناعة المعجزات المادية في الأرض، من بناء قصور شاهقة، ومعابد عظيمة، وتماثيل دقيقة، وأحواض ضخمة، وكل ذلك بدقة وإتقان لا تبلغه يد الإنسان. وقد ورد في القرآن: "وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ".

كان الجن يخافون من سليمان خوفاً حقيقياً، لا لأنهم خُلقوا أضعف منه، بل لأن الله قذف في قلوبهم هيبته، وجعلهم يعلمون أن أي تمرد على أوامره سيقابل بعقاب إلهي صارم، فكان النبي سليمان يتصرف بينهم كملك لا يُنازع، وكقائد تنفذ أوامره في لمح البصر، ومن يتمرد منهم يُحبس ويُقيد في الأغلال.

ومن أعجب ما ورد عن تسخير الجن، أن سليمان عليه السلام كان يستخدمهم في الغوص في أعماق البحار لاستخراج اللآلئ والكنوز، وفي بناء المدن المحصنة، وفي تجميل معالم ملكه، وكانوا يعملون بإتقان مدهش، لأنهم يعلمون أن هلاكهم أقرب من لحظة إذا عصوا أمره أو تهاونوا في تنفيذ ما يُطلب منهم.

وقد روي أن الجن كانوا لا يجرؤون على مخالفة أمره حتى بعد وفاته، إذ ظلوا يعملون دون أن يعلموا أنه قد مات، وكان متكئاً على عصاه، فلما أكلت دابة الأرض منسأته وخرّ، تبين للجن أنهم كانوا يجهلون الغيب، وأنهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، كما ورد في سورة سبأ: "فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ".

كان سليمان لا يستخدم الجن لغايات شخصية، بل لخدمة رسالة ربانية سامية، لبناء حضارة التوحيد، ولنشر العدل والحق، ولهذا كان يشرف على كل صغيرة وكبيرة، ويحاسبهم على التقصير، ويأمرهم أن يعملوا أعمالاً نافعة للبشر، لا عبث فيها ولا طغيان.

الجن في خدمته لم يكونوا فقط صُنّاعاً، بل كانوا أيضاً مخبرين وجواسيس، يأتونه بأخبار البلدان، وينقلون له أخبار الأمم، ويساعدونه في ضبط الأمور السياسية والاقتصادية في مملكته، وهو ما جعل ملكه أقرب إلى دولة خارقة عابرة للحدود، ذات أذرع لا تُرى وعين لا تنام.

وقد امتدت هذه الهيبة لتصل إلى الملوك والبشر، وكان الكل يدرك أن سليمان ليس كغيره من الملوك، بل هو نبي مسدد، ومعه جيش لا يُقهر، وسلطان لا يُدانيه أحد، ولذا حين بعث كتاباً إلى بلقيس ملكة سبأ، ارتعدت فرائصها، وسارعت إلى السلم، لأنها عرفت أن الدخول في حرب مع جيش يضم الريح والجن والطير معناه الهلاك الحتمي.

ومن أعظم دلائل سيطرته على الجن، قصته مع العفريت الذي قال له: "أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ"، حين طلب إحضار عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين، لكنها لم تكن السرعة التي أبهرته، بل الذي أتى به في لمح البصر هو من عنده علم من الكتاب، وهو ما يدل على أن المعرفة الربانية أقوى من قوة الجن أنفسهم.

عاش سليمان حياته وهو مُطوّق بهذا التسخير الإلهي، ومع ذلك ظل عبداً شاكراً، لم يتكبر على خلق الله، ولم يطغَ، بل قال حين رأى عرش بلقيس أمامه: "هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي"، فكان مثلاً في التواضع رغم أنه بلغ من السلطان ما لم يبلغه أحد.

ومع ذلك، لم تكن علاقته بالجن علاقة إذلال أو استعباد، بل علاقة تسخير وظيفي، فقد كانت طاعتهم له جزءاً من مشيئة الله لا من قوته الشخصية، وكان هدفه هو إقامة العدل والخير، لا الهيمنة أو التسلط على الخلق، ولهذا كانت الجن تطيعه، لأنهم يعلمون أن مهمته من الله لا من الهوى.

الجن، بما فيهم المردة والعفاريت، كانوا أداة في يد سليمان، لكنهم أيضاً اختبار له، هل يظل على تواضعه وشكره لله، أم يفتتن بالقوة والسلطة؟ فثبت النبي على الصراط، ورفض أن يرى نفسه أفضل من غيره، وكان كلما نال مكسباً عظيماً، نسبه لله، وقال: "هذا من فضل ربي".

وامتد هذا التسخير إلى الرياح، فكانت تجري بأمره رخاء حيث أصاب، وتحمله ومن معه من مملكة إلى أخرى في زمن لا يمكن تصوره، مما زاد من قدرته على الإشراف على دولته الواسعة، وهو ما جعل التنقل بين الأقاليم أمراً لا يعيقه بعد أو وعورة.

كما سخر له الله الشياطين، ليس فقط للبناء، بل أيضاً للغوص واستخراج الكنوز، وكان منهم من يُقرن في السلاسل إذا خالف الأوامر، فكانوا يعلمون أن أدنى عصيان يعني الحبس والذل، فعملوا بكل جد وبدون كلل.

ورغم أن الشياطين كانوا معروفين بالمكر والمراوغة، فإنهم لم يملكوا سوى الطاعة المطلقة أمام سليمان، لأنهم كانوا تحت السيطرة الإلهية، مسيّرين لا مخيّرين في زمن النبي الذي سُخّرت له مفاتيح القوى الخفية.

وهكذا، أدار سليمان مملكته بين الجن والإنس والطير والريح، وكان كل شيء يسير بأمره، في منظومة لا تتكرر، ومعجزة لا مثيل لها، وكانت النتيجة حضارة توحيدية راقية، امتزج فيها الغيب بالشهادة، والممكن بالمستحيل.

لكن رغم هذا الملك العظيم، مات سليمان كما يموت أي بشر، ووقف الجن وجيشه الغيبي عاجزين عن معرفة وفاته، حتى أسقطت دابة الأرض عصاه، وتهاوى الجسد ليُثبت الله أن الغيب لا يعلمه إلا هو، وأن القوة مهما عظمت، مصيرها إلى الفناء.

ويبقى سليمان عليه السلام، رمزاً نبوياً للتوازن بين السلطة والعبادة، بين القوة والتواضع، بين الملك العظيم والعبودية الصادقة، فكان نبياً ملكاً لا كغيره من الملوك، سُخّرت له الجن لا ليُفتن، بل ليكون آية شاهدة على قدرة الله في الأرض.

 

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك