
أنتلجنسيا المغرب: هيئة التحرير
شعب المايا واحد من أعظم الشعوب التي
سكنت القارة الأمريكية قبل وصول الأوروبيين، وامتد حضوره عبر آلاف السنين في مناطق
واسعة من المكسيك وغواتيمالا وبليز وهندوراس والسلفادور. نشأ هذا الشعب في بيئة
غنية بالغابات المطيرة والجبال والسهول، ما وفر له موارد طبيعية مكّنته من بناء
حضارة متقدمة على المستويات الزراعية والمعمارية والفلكية.
اعتمد المايا على الزراعة كأساس
لحياتهم الاقتصادية، فزرعوا الذرة والفاصوليا والقرع والفلفل، وابتكروا تقنيات ري
متطورة وشقوا القنوات واستعملوا المدرجات الزراعية في المرتفعات. هذه القدرة على
التحكم في الموارد الزراعية جعلتهم قادرين على دعم مدن ضخمة يصل عدد سكانها إلى
عشرات الآلاف.
كانت مدن المايا مراكز دينية وسياسية
وتجارية، ومن أشهرها تيكال، وكوبان، وبالينكي، وتشيتشن إيتزا. هذه المدن اشتهرت
بمعابدها الهرمية الضخمة المبنية من الحجر الجيري، والتي كانت مخصصة لعبادة الآلهة
وإقامة الطقوس الدينية المعقدة.
امتلك المايا معرفة فلكية متقدمة، حيث
راقبوا حركة الشمس والقمر والكواكب، وتمكنوا من وضع تقاويم دقيقة مثل
"التقويم الطويل" و"التقويم الطقوسي"، واللذين استخدموهما
لتحديد مواعيد الزراعة والمواسم المقدسة والاحتفالات الكبرى.
كما طور المايا نظام كتابة فريداً من
نوعه يعتمد على الرموز الهيروغليفية، وهو واحد من أقدم أنظمة الكتابة في
الأمريكتين. كانت هذه الكتابة تُستخدم في تسجيل الأحداث التاريخية والأنشطة
الاقتصادية والطقوس الدينية على جدران المعابد وفي المخطوطات المصنوعة من لحاء
الأشجار.
المجتمع الماياوي كان منظماً بشكل
هرمي، يتربع على قمته الملك أو "الكاكيت" الذي يُعتبر ممثلاً للآلهة على
الأرض، يليه النبلاء والكهنة الذين كانوا يشرفون على الطقوس وإدارة شؤون الدولة،
ثم المحاربون والحرفيون والفلاحون، وأخيراً العبيد الذين غالباً ما كانوا أسرى
الحروب.
الدين كان محور الحياة لدى المايا،
فقد عبدوا آلهة متعددة تمثل قوى الطبيعة مثل المطر والشمس والذرة والخصوبة،
واعتقدوا أن توازن الكون يعتمد على القرابين، بما في ذلك تقديم التضحيات البشرية
في بعض الطقوس.
شهدت حضارة المايا عدة فترات ازدهار
وانهيار، وأبرزها الفترة الكلاسيكية (250-900م) التي بلغت فيها قمة مجدها من حيث
العمران والعلوم والفنون، قبل أن تبدأ المدن الكبرى في الانهيار تدريجياً لأسباب
لا تزال محل جدل بين المؤرخين.
من بين التفسيرات المطروحة لانهيار
المايا عوامل بيئية مثل الجفاف الطويل، واستنزاف التربة بسبب الزراعة المكثفة،
إضافة إلى الصراعات الداخلية والحروب بين المدن المستقلة التي أضعفت قوتهم.
بعد انهيار المدن الكلاسيكية في
الجنوب، واصل المايا وجودهم في الشمال خاصة في منطقة يوكاتان، حيث برزت مدن مثل
تشيتشن إيتزا وأوكسمال، وظلت مزدهرة حتى وصول الإسبان في القرن السادس عشر.
عندما وصل الغزاة الإسبان بقيادة
هرنان كورتيس ومن تبعه، واجهوا مقاومة شرسة من المايا استمرت لعقود. ومع ذلك، تمكن
الإسبان من إخضاع مناطقهم تدريجياً بفضل تفوقهم العسكري والأمراض التي جلبوها
وأهلكت السكان المحليين.
رغم الغزو، لم تختفِ ثقافة المايا، إذ
احتفظ كثير من أحفادهم بلغتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وما زالوا يعيشون في مناطق
متعددة من المكسيك وغواتيمالا حتى اليوم، مع اندماج جزئي في المجتمعات الحديثة.
الفنون الماياوية كانت غنية ومتنوعة،
شملت النحت والنقش على الحجر والخشب، وصناعة الفخار المزخرف، والرسم على الجدران،
إضافة إلى المنسوجات الملونة التي تحمل رموزاً دينية واجتماعية.
في مجال الرياضة، اشتهر المايا بلعبة
الكرة الطقسية التي كانت تحمل أبعاداً دينية وسياسية، حيث يعتقد أن نتيجتها كانت
أحياناً مرتبطة بطقوس القرابين للآلهة.
العمارة الماياوية كانت مبهرة
بتصاميمها الهندسية، إذ تضمنت السلالم الواسعة، والغرف المقوسة، والساحات المركزية،
وتخطيط المدن بما يتوافق مع مواقع النجوم والكواكب.
اللغة الماياوية ليست لغة واحدة، بل
عائلة لغوية تضم عشرات اللهجات واللغات التي ما زال بعضها مستخدماً حتى اليوم،
وتشكل رابطاً حياً بين الماضي والحاضر.
الأساطير الماياوية، كما وردت في كتاب
"بوبول فوه"، تقدم رؤية عن خلق العالم وأصل الإنسان وعلاقة الآلهة
بالبشر، وهي تمثل مرجعاً ثقافياً وأدبياً بالغ الأهمية.
علم الرياضيات لدى المايا كان
متقدماً، حيث ابتكروا النظام العشري والعد القائم على الرقم 20، واستخدموا الصفر
كقيمة رياضية قبل كثير من الحضارات الأخرى.
حتى اليوم، لا تزال آثار المايا تجذب
علماء الآثار والسياح من مختلف أنحاء العالم، لما تحمله من أسرار ومظاهر عبقرية
عمرانية وعلمية، شاهدة على حضارة لم تندثر رغم تقلبات الزمن.
لقد كانت حضارة المايا دليلاً على
قدرة الإنسان على التكيف مع بيئته، وإبداعه في مجالات الزراعة والهندسة والعلوم
والفنون، وهي قصة شعب واجه المجد والانهيار، لكنه ترك إرثاً يخلد اسمه في صفحات
التاريخ الإنساني.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك