أنتلجنسيا المغرب:هيئة التحرير
في زمنٍ كثرت فيه المظالم واشتدت فيه
الحاجة إلى حاكم عادل، برز ملك لم يكن كغيره من الملوك، لم يسكن في قصوره العالية
بعيداً عن نبض الناس، بل آثر أن يخوض في تفاصيل حياتهم، يشاركهم همومهم ويصغي
لأناتهم، دون أن يعرف أحد من هو، كان يخلع تاجه كل مساء، ويتدثر بلباس بسيط،
ويغادر قصره في هدوء، متخفياً في هيئة رجل من عامة الناس.
لم يكن هذا التخفي رغبة في التسلية أو
المغامرة، بل كان التزاماً صادقاً بالعهد الذي قطعه على نفسه يوم اعتلى العرش: أن
يكون قريباً من المظلوم، ناصراً للضعيف، عادلاً في الحكم، فكان يجوب الأسواق، يسمع
التجار والمشترين، يتأمل الوجوه المرهقة، ويقارن الأسعار، ويسجل في ذاكرته كل ما
يراه من اختلالات واحتياجات.
ذات ليلة، دخل سوقاً مكتظاً، ولاحظ
شيخاً مسناً يحاول بيع بضاعته الرديئة بثمن زهيد. اقترب منه الملك المتخفي وسأله
بلطف عن حاله، فشكى الرجل من الجوع وقلة الزبائن وجشع كبار التجار الذين يحتكرون
السوق. حينها أدرك الملك أن هناك من ينهب قوت البسطاء دون أن يحرك أحد ساكناً.
وفي ركن آخر من السوق، رأى صبية
صغاراً يبيعون المناديل والحلوى على الأرصفة. سألهم، فسمع قصصاً تقطر فقراً، وتفيض
كبرياء، علم أن هؤلاء لا يدرسون لأنهم يعيلون أسرهم، ذرف دمعاً لم يره أحد، وعاد
إلى قصره وقلبه مثقل بالحكايات المؤلمة التي لا تصل عادة إلى آذان الملوك.
وفي صباح اليوم التالي، أصدر مراسيم
صارمة تمنع الاحتكار، وتفرض رقابة على الأسعار، وتنظم توزيع البضائع، كما أمر
بإنشاء صندوق لدعم الأرامل والأيتام، وتمكين الأسر الفقيرة من تعليم أبنائها
مجاناً، لم يقل لأحد كيف استقى هذه القرارات، فقد أراد أن تبقى نواياه خالصة لله
وللشعب.
مع مرور الأيام، لاحظ الناس تغيّراً
جذرياً في إدارة البلاد. صار صوت الضعفاء مسموعاً، وقلت الشكاوى في دواوين الحكم،
وتحدث التجار عن رجل غريب يظهر ليلاً، يسأل كثيراً، ويدوّن ملاحظات بدقة، البعض
ظنه جاسوساً، وآخرون قالوا إنه فقيه متصوف، لكن الحقيقة لم يعرفها أحد.
في إحدى الليالي، هجم لص على رجل ضرير
في زقاق معتم، وإذا بشخص يتدخل ويحبط الهجوم، ويختفي بسرعة، حين سأل الضرير عن
اسمه، همس في أذنه: "أنا خادمك قبل أن أكون حاكمك"، أدرك الضرير أن هذا
الصوت ليس صوت شخص عادي، لكنه لم يتكلم.
وفي مناسبة عامة، خاطب الملك شعبه
وقال: "لا أريد أن أحكمكم من فوق أبراج العاج، بل من تحت أقدام الفقراء
والضعفاء"، ارتجت الساحة بالتصفيق، ولم يعرف أحد سر كلماته العميقة إلا أولئك
الذين صادفوه في الأسواق ولم يتعرفوا عليه.
ذات مرة، دخل أحد أعداء الملك المدينة
متنكرًا، وبحث عن ثغرة يهاجم منها النظام، فدخل السوق يتقصّى نبض الناس، لكنه فوجئ
بأن الجميع يثني على الملك، دون أن يطلب منهم أحد ذلك. فقال في نفسه: "هذا
رجل ملك قلوبهم قبل أن يملك رقابهم".
بمرور السنين، تحوّلت قصة الملك
المتخفي إلى أسطورة تتناقلها الألسن، لكن لم يكن أحد يجزم بصحتها، حتى كبار
الوزراء لم يكونوا يعلمون بخروجه الليلي، فقد كان يخرج وحده، في صمت، كما يفعل
العاشق حين يزور قبر حبيبته.
وعندما وافته المنية، ووري جثمانه
الثرى، فوجئ الجميع بوصيته الأخيرة، وقد كتب فيها: "ادفنوني بثياب رجل بسيط،
واذكروا أن أقرب الطرق إلى الله، هو أن يكون الحاكم في خدمة شعبه لا متسلطاً عليهم".
بكته الأسواق قبل القصور، وبكاه
اليتامى قبل الجنود، وقالت امرأة كانت تبيع الخبز: "كان يمر من هنا كل ليلة،
يشتري ولا يساوم، يسأل ولا يُرهق، واليوم فقط عرفت من كان".
وهكذا انتهت حياة ملك لم يُعرف بثرائه
أو بأسه، بل بعدله الذي سكن القلوب دون أن يحتاج إلى استعراض أو دعاية، ملكٌ أحب
شعبه فبادلوه الحب، ورحل وهو بينهم لا فوقهم، كأنه لم يكن ملكاً... بل إنساناً
عظيماً في ثوب حاكم.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك