أنتلجنسيا المغرب:هيئة التحرير
عروة بن الورد، شاعر بني عبس، لم يكن مجرد فارس يغزو القبائل،
ولا رجلاً عاديًا يمرّ على الحياة مرور الكرام. لقد كان حالة استثنائية، تُشبه
الأساطير، حيث امتزجت في شخصه صورة اللص الشريف، والمتمرّد النبيل، والعاشق
الثائر، ليصنع من فقره قضية، ومن سيفه وسيلة لإطعام الجياع، وليصبح رمزًا خالدًا
في الذاكرة العربية للعدالة الاجتماعية التي لا تأتي عبر الدواوين، بل تُنتزع من
بين أنياب الظلم.
كان عروة يخرج لقطع الطرق، لا من أجل ملء خزائنه، بل ليعيد
توزيع الثروة المنهوبة. يتعقّب القوافل التجارية التي يملكها سادة القبائل
والأعيان، ويأخذ منها ما يشبع بطون من طُردوا من ديارهم، أو ناموا على جوع، أو لم
يجدوا مأوى. وبالرغم من أن أفعاله تُعد في الشرع القبلي سرقة، إلا أن فقراء العرب
في عصره لم يروه كذلك. كانوا يرونه الفارس الذي كسر شوكة التفاوت الطبقي، ودوّخ
الأغنياء في عقر نعيمهم.
الغني الذي كان يبيت متخماً، كان يخشى ذكر اسم عروة، لأنه كان
يعرف أن هذا الاسم يعني الغضب القادم من صحراء الجياع. أما الفقير، فكان يبتسم حين
تُذكر مغامرات ابن الورد، ويشعر أنه لم يُخلق عبثاً، ما دام هناك من يطالب بحقه،
ولو بخنجر في ظلام الليل. لقد أعاد الرجل التوازن داخل مجتمع انهار فيه ميزان
العدالة، وأصبح القوي يملك كل شيء، والضعيف لا يملك سوى التضرع.
ورغم ماضيه الخارج عن القانون، لم يكن عروة سفاحًا ولا مهووسًا
بالدم. كان دقيقًا في ضرباته، لا يقتل إلا من قاومه بالسلاح، وكان يعفو عن القوافل
التي لا تحمل إلا قوت الناس. كانت له شيفرة أخلاقية صارمة، لا ينهب إلا من امتلأت
خزائنه، ولا يُريق الدم إلا في أضيق الحدود. هذه المعادلة الفريدة جعلته محبوبًا
من عموم الناس، ومكروهًا من أرباب الأموال.
في مرويات العرب، نُقل عن عروة أنه كان إذا أصاب غنيمة، جاء بها
إلى المساكين، ووزّعها بعدل لا يعرفه حتى حكام زمانه. لم يكن يُبقي لنفسه شيئًا،
سوى السيف والخيمة، ولا يبحث عن رفاهية أو سكن فخم، بل كان يكتفي بقليل الزاد،
وكثير من الكرامة. كان الزهد عنده سلاحًا، لا تقوى عليه الشهوات ولا تُغريه
الأموال.
لم يكن تمرده فقط على الأغنياء، بل أيضًا على أعراف القبيلة
التي همّشت الفقراء وحرمتهم حتى من حقهم في الحياة الكريمة. لقد أسّس عروة، من حيث
لا يدري، أول نواة لفكر ثوري بسيط، قاعدته أن "الجائع أولى بالخبز من
المحتكر". كان يجرّد الأغنياء من قدسيتهم، ويعريهم أمام المجتمع، ويكشف
تناقضاتهم وزيف طقوسهم.
ومع ذلك، لم يسلم عروة من ويلات المجتمع القاسي. فقد عانى من
الحرمان والنبذ، ورفضت قبيلته تزويجه من أحبّ قلبه، فقط لأنه فقير. ومع كل هذه
المعاناة، لم يتحول إلى كاره للمجتمع، بل إلى محارب من أجله. إنه لم يرد الانتقام،
بل الإنصاف، لم يكن يغار من الغني، بل يحتقر من استعبد الناس بثروته.
أشعاره التي وصلت إلينا، تكشف عن روح متوهجة بالكرامة، ووعي
اجتماعي حاد، وذكاء فطري نادر. لقد كان يُدرك أن الشعر وحده لا يُشبع البطون، لذلك
حمل السيف إلى جانب القصيدة، وواجه الواقع لا بالحزن، بل بالفعل. كان يرى أن الفقر
ليس قدراً، بل نتيجة ظلم بشري، وأن للفقير صوتًا وسيفًا إذا امتلك الجرأة.
حتى خصومه، لم يستطيعوا إلا الاعتراف بفروسيته. فقد كانت معاركه
نظيفة، لا يغدر، ولا يخون، ولا يطعن من الخلف. وإذا وعد وفى، وإذا أعطى لم يمنّ،
وإذا هاجم، فليستبدل الجوع بالكرامة. لذلك ظلّ اسمه حيًا، وتحوّل مع الزمن إلى
أسطورة ناصعة، ترويها الألسن بشغف، وتحملها القصائد كرمز للفروسية المختلفة.
في زمن كانت اللصوصية فيه مهنة منحطة، جعل منها عروة رسالة
نضال. لم يكن يريد ثورة شاملة، بل فقط أن تُنصف المعدمين. وكان يرى أن الصدقة لا
تكفي، وأن التغيير الحقيقي لا يأتي من الأعلى، بل من سواعد من لا يملكون شيئًا.
كان يُحرّك الأحداث من الهامش، لكنه ظل في قلب التأثير.
ولأن الأغنياء كانوا يعرفون خطورته، سعوا بكل الطرق للنيل منه.
أرادوه ميتًا، أو مشوهًا، أو منسيًا. لكنّ الرجل انتصر بفعله، لا بكلامه، وبأثره،
لا بموقعه. عاش طريدًا، لكنه بقي سيّدًا على القلوب، ومات بعيدًا عن قبيلته، لكنه
دُفن في ذاكرة الأمة.
لم يكتب له أن يعيش حياة هادئة، لكنه خطّ بدمه وسيفه معنى
جديدًا للبطولة. لم يكن قاتلاً مأجورًا، ولا عاشقًا للأضواء، بل مقاتلًا من أجل
الذين لا يملكون حتى القدرة على الحلم. ومن هنا، أخذ مكانه في وجدان العرب، لا
كلص، بل كقدّيس الصحراء.
لقد كان عروة ابن الورد تجسيدًا لفكرة أن العدالة لا تحتاج إلى
قانون مكتوب بقدر ما تحتاج إلى ضمير حيّ. وكان سلوكه دعوة مبكرة لفهم جديد
للبطولة، لا يقوم على السلطة، بل على الوقوف بجانب المظلوم، مهما كلف الثمن. ومن
هنا، نفهم لماذا لم يصفه الفقراء باللص، ولماذا بقي الأغنياء يطاردونه حتى بعد
موته.
في عالم يقدّس المال ويعبد القوة، كان عروة كافرًا بهذه الآلهة.
آمن بأن الإنسان قيمة في ذاته، لا بجيبه ولا حسبه. ومن هذا الإيمان صنع تمرده، ومن
هذا التمرّد صنع مجده، ومن هذا المجد خلّدته الذاكرة.
عروة لم يكن حلمًا، بل
كابوسًا مستمرًا في ذاكرة الأغنياء، وحلمًا متجددًا في ضمير الفقراء. لقد عاش
للناس، ومات كما عاش: حرًا، شريفًا، وفارسًا على غير فرس.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك