
أنتلجنسيا المغرب: الرباط
في زمن غاب فيه صوت العدل، وعمّ الظلم
ربوع الأرض، عُرفت قصة امرأة مسلمة في بلاد الروم، أُهينت وصرخت صرخة أحرقت قلوب
الأحرار وأيقظت ضمائر الملوك، لتدوّي في الآفاق عبارة واحدة:
"وامعتصماه".
لم تكن مجرد كلمة بل كانت شرارةً
أشعلت نيران الغضب في قلب خليفة قوي اسمه المعتصم بالله، الذي لم ينتظر تقارير ولا
مفاوضات، بل تحرّك بجيوشه ليُعيد للعرض كرامته، وللحق هيبته. إليك القصة الكاملة
كما لم تُروَ من قبل، في ثلاثين فقرة مكثفة، دامغة، تستعرض الخلفيات والوقائع
والنهاية التي خلّدها التاريخ.
كانت بلاد الروم آنذاك تتربص بالدولة
العباسية، تستهدف حدودها، وتستضعف المسلمين في أطرافها، وقد شعرت بضعف الخلافة بعد
وفاة هارون الرشيد وتشتّت الانتباه عن المناطق الحدودية.
عاشت في مدينة "عمورية"
امرأة مسلمة من أهل الشام، ذهبت للتجارة، فوقع بها الروم وأسرها أحد جنودهم،
وجرّوها من خمارها، فانكشف رأسها وسط جمع من القوم فضُربت وأُهينت.
صرخت المرأة بألم:
"وامعتصماه!"، وهي لا تدري إن كان يسمعها أحد، لكن تلك الصرخة بلغت
الخليفة المعتصم في عقر داره في بغداد.
وصل الخبر إلى المعتصم بالله، وهو
الخليفة العباسي الثامن، رجلٌ اشتهر بالصرامة والشدة، وكان لا يتسامح في أمور
الكرامة والذل.
قيل إن الرسول الذي جاءه بالخبر، قال:
"يا أمير المؤمنين، إن امرأة في عمورية صاحت باسمك بعدما هُتكت
كرامتها"، فهبّ المعتصم من مكانه كمن لدغه العقرب.
رد المعتصم ردًا صارخًا: "لبيكِ
يا أختاه"، وتعهد أن لا يهدأ له بال حتى يطأ خيله أرض عمورية وينتقم من
المعتدين.
بدأ المعتصم بتجهيز جيش ضخم، أعدّ فيه
آلاف الجند، ووفّر العتاد والسلاح والمؤن، وأمر ببدء الزحف إلى بلاد الروم من دون
تأخير.
انطلقت الجيوش من بغداد تحت راية
واحدة: نصرة امرأة استُغيث بها فأغاثها خليفتها، ولقن العدو درسًا لا يُنسى.
وفي الطريق، واجهت الجيوش صعوبات جمة،
منها التضاريس الوعرة وكمائن الأعداء، لكن العزيمة التي بثّها المعتصم في نفوس
الجنود كانت أقوى من كل العوائق.
حين اقترب المعتصم من أسوار عمورية،
أرسل إليهم يدعوهم إلى تسليم المدينة والاعتذار، فرفضوا وتهكموا عليه.
فاشتعل غضب المعتصم، وأقسم أن يهدم
أسوار المدينة حجرًا حجرًا، وأن يدخلها فاتحًا أو يموت دونها.
ضرب الحصار على عمورية، واستمر لعدة
أيام، حتى بدأت المؤن تنفد من المدينة، وبدأ الخوف يتسلل إلى قلوب قادتها.
في يوم مشهود، أمر المعتصم بشنّ
الهجوم الكامل، فتقدمت الكتائب، وتهاوت الحصون، وتداعت القلاع كأنها من ورق.
دخل المسلمون عمورية منتصرين، ورفرف
لواء الدولة العباسية فوقها، في مشهد دوّخ العالم وهزّ عرش الروم.
أُحضرت المرأة المسلمة إلى المعتصم،
فقال لها: "يا أختاه، هل بلغك أنني جئتكِ مجيبًا للنداء؟"، فبكت المرأة،
وقالت: "نعم، يا أمير المؤمنين، أعزك الله كما أعزتني".
رد المعتصم قائلاً: "والله، ما
خرجت إلا لأرد لكِ كرامتك، ولألقّن من أهانك درسًا لا ينساه".
سجّل المؤرخون هذا النصر كنقطة فاصلة
في تاريخ المسلمين، لا فقط بسبب الغزو، بل لأن سبب الحرب كان صرخة امرأة.
صار المعتصم رمزًا للنجدة والشهامة،
وصارت قصته تُروى في المجالس والمدارس والقصور، وتتناقلها الألسن كأنها أسطورة.
المرأة التي أطلقت صرختها لم تكن تعلم
أنها ستحرك جيشًا بأكمله، وتكتب اسمها في سفر البطولة والشرف.
لم تكن المعركة معركة حدود، بل معركة
كرامة، أعاد فيها المعتصم تعريف القيادة بمعناها الحقيقي.
كان النصر في عمورية رسالةً إلى كل من
تسوّل له نفسه العبث بعرض المسلمين أو امتهان كرامتهم.
الروم، رغم قوتهم، لم يتوقعوا هذه
الردة الفعل الشرسة، ولم يظنوا أن صرخة امرأة ستهدم مدينتهم.
خاف ملوك الأرض من تكرار التجربة، فصاروا
يحسبون ألف حساب لغضبة المعتصم، ولمكانة المسلمين.
أيقظ هذا النصر روح العزة في الأمة،
ورفع من منسوب الثقة بين الناس وخليفتهم، بعد أن كادوا يفقدون الأمل.
المرأة المسلمة، في لحظة ضعف، صارت
بطلة من دون أن تحمل سيفًا، لأن صوتها كان كافيًا لهزّ عروش الطغاة.
قصة المعتصم والمرأة المسلمة تجاوزت
حدود الزمان والمكان، وبقيت حيّةً في ضمير كل من يؤمن بالعدل والكرامة.
صارت عبارة "وامعتصماه"
أيقونة في الوجدان العربي، تلهب المشاعر، وتستفز الفطرة الحرة في كل إنسان.
ما فعله المعتصم ليس مجرد استجابة، بل
كان تجسيدًا لأخلاق الفروسية والمروءة والعدل في أبهى صورها.
اليوم، وبعد قرون من الواقعة، لا زالت
القصة تذكّرنا بما يمكن أن يصنعه قائد عادل إذا شعر بمسؤولية حقيقية تجاه شعبه.
في زمن يُهان فيه الناس ولا تُحرّك
الدول ساكنًا، تُصبح قصة المعتصم أشد وقعًا، وتصفع الوجوه التي تبلّدت.
كان المعتصم رجل دولة من طراز نادر،
لم يكن يبحث عن مجد شخصي، بل كان مجده في انتصار شعبه وكرامة أمته.
وهكذا، حين نادت امرأة
"وامعتصماه"، لبّى النداء، فخلّده التاريخ قائدًا، وخيّب ظن من ظنّ أن
الكرامة قد تموت.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك