أنتلجنسيا المغرب:الرباط
في عز القيظ، حين كانت الشمس تلسع الوجوه والرمال تغلي تحت
الأقدام، خاض المسلمون واحدة من أعظم المعارك في تاريخهم: غزوة
بدر الكبرى. لم تكن معركة بالسيف فقط، بل بالصبر والعقيدة والثبات تحت حرارة نارين: شمس
لا ترحم، وعدو يتربص.
خرج المسلمون من المدينة في شهر رمضان، صائمين، متعبين، لا
يملكون من عدة القتال سوى القليل، وعددهم لم يتجاوز ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً،
مقابل جيش قريش الذي فاقهم عددًا وعدة بأكثر من ثلاثة أضعاف، مدجج بالسلاح والخيل
والعتاد، تظله رايات الكبرياء.
الحرارة في صحراء بدر كانت قاتلة، حتى إن أحد الصحابة قال:
"كان الحر يلفحنا لَفحًا كأننا وسط جمر مشتعل"، ورغم ذلك ثبتوا، لا من
قوة أجسادهم، بل من حرارة الإيمان التي تفجرت في قلوبهم وجعلتهم يقاتلون كأنهم ألف.
العرق كان يتصبب من الجباه، والظمأ يشق الحناجر، والأرض ملتهبة
لا تُطاق، لكن النبي ﷺ ظل واقفًا في خيمته يناشد ربه قائلاً: "اللهم إن تهلك
هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض"، دعاء نزل على الجيش بردًا وسلامًا، كأنما
خفف عنهم حر المعركة ووهج الصحراء.
كانوا يعلمون أنهم يواجهون الموت، ليس فقط بسيوف المشركين، بل
بجفاف الأرض وقسوة الطبيعة، ومع ذلك حملوا قلوبًا لا تخشى إلا الله، وانتشروا في
أرض بدر يتسلحون بالإيمان أكثر من السيوف.
ورغم أنهم في رمضان، أصرّ معظمهم على الصيام، فصاموا وقاتلوا،
في ملحمة فريدة سُطرت بمداد من العرق والدماء والصبر، لتبقى دليلاً على أن الإيمان
يمكن أن يغلب أقسى الظروف المناخية والمعنوية والعسكرية.
بينما كان الحر يذيب الحديد، كانت عزائمهم تزداد صلابة، يقاتلون
تحت الشمس الحارقة وكأنهم في ظل الجنة، لا يهابون حرارة ولا جراح، وإنما يبحثون عن
نصر وعدهم به الله في لحظة فاصلة من تاريخ الأمة.
وكانت المعجزة الكبرى أن تنتصر هذه الفئة القليلة الضعيفة، تحت
حرارة تصهر الحجارة، على جيش مغرور مدجج بكل ما تملك قريش من مال وقوة، فكانت
الضربة القاصمة لهيبة الكفر، والانطلاقة الحقيقية لدولة الإسلام.
نزول الملائكة في أرض المعركة زاد الأرض بردًا، وكأن السماء
قررت أن تكون بجانب من صبر وصمد. "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم
بألف من الملائكة مردفين"... كانت لحظة حاسمة ترويها الأرض والسماء معًا.
حتى الرمال التي كانت تلتهب صارت تطاوع أقدام الصحابة، كأنما
انقلبت حرارة بدر لصالحهم، ليطاردوا قريش التي انهزمت رغم تفوقها، تاركة خلفها
قتلى وأسرى وهزيمة معنوية لن تنساها.
استُشهد من المسلمين 14 رجلاً فقط، لكنهم نالوا الخلود، بينما
قُتل من قريش كبار زعمائها، وعلى رأسهم أبو جهل، رمز الطغيان الذي سقط في رمال بدر
كما يسقط الجليد في لهيب الشمس.
غزوة بدر لم تكن معركة أرض فقط، بل كانت رسالة إلى التاريخ: أن
من يحمل الحق، يصبر على الجوع والحر والقلّة، سينتصر ولو على أقوى قوة بشرية.
وعاد النبي ﷺ إلى المدينة وهو يحمل أول نصر إسلامي، نصر لم يأتِ
من وفرة السلاح، بل من حرارة العقيدة التي فاقت حرارة الرمال، ومن دعاء الليل الذي
غلب جيوش النهار.
ورأى الصحابة في بدر الدرس الأعظم: أن لا شيء يمكن أن يقف أمام
قوة الإيمان، لا حرّ ولا سيف ولا عدوان، وأن النصر ليس رهين الأعداد، بل القلوب
التي تهتف "الله أكبر" تحت كل ظرف.
وظلت بدر خالدة في وعي الأمة، ليست مجرد غزوة، بل مشهد حيّ لقوة
الصبر والإرادة والإيمان في وجه المستحيل، حيث اختلط الغبار بالدعاء، والحرارة
باليقين، والجوع بالنصر.
وإلى اليوم، لا تزال بدر تُروى كملحمة تليق بعظماء التاريخ،
يُذكر فيها الأبطال الذين واجهوا نار الأرض بإيمان السماء، وانتصروا على طغيان
قريش تحت حرارة تحرق الجلد... لكنها لم تحرق العزيمة.
وما أشبه اليوم بالأمس، ففي
كل زمن تعود بدر بمعناها، لتقول للمؤمنين: إن صبرت، وثبت، وحملت قلبًا لا يخاف إلا
الله، فالنصر قريب... مهما كان الحر شديدًا، والعدو قويًا، والرمال ملتهبة.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك