أنتلجنسيا المغرب: الرباط
اندلعت شرارة حرب البسوس من حادثة
بسيطة، لكنها كانت كافية لإغراق قبيلتين من أعظم قبائل العرب في دماء لا تجف
لسنوات طويلة. قُتل ناقة، فاستبيحت أرواح، وتحوّلت الفروسية إلى لعنة أحرقت الأخضر
واليابس.
كانت ناقة "سعد" مملوكة
لامرأة تُدعى "البسوس بنت منقذ"، تقيم في ضيافة ابن أختها جساس بن مرة
من قبيلة بكر. بينما كانت الناقة ترعى في أرض تُعدّ ضمن حدود قبيلة تغلب، مرّ بها
كليب بن ربيعة، زعيم تغلب، فغضب من تعدّيها، فقتلها بسهامه.
ظنّ كليب أنه بهذا التصرف يفرض هيبة
قبيلته ويضع حدًا للفوضى، لكن ما لم يكن يتوقعه أن فعله ذاك سيكون بداية لحرب دامت
أربعين عامًا بين قبيلتي بكر وتغلب، وأُطلق عليها لاحقًا "حرب البسوس".
لم تصبر البسوس على الإهانة، ورفعت
الصوت بالعويل والتهديد، حتى أجّجت قلب جساس ابن أختها، فغلى دمه، وتعهد
بالانتقام. لم يكن الهدف الناقة، بل كرامة القبيلة وهيبتها أمام سطوة كليب.
في لحظة غضب، ترصّد جساس كليبًا، ووجه
له طعنة قاتلة، أنهت حياته، وفتحت بوابة جهنم على قبيلتيهما. كان كليب شقيق الزير
سالم (المهلهل)، الشاعر المحارب، الذي تحول من شاعر طروب إلى قائد حرب لا يرحم.
مقتل كليب لم يمرّ مرور الكرام. أقسم
الزير سالم ألا يهدأ له بال حتى يُفني قبيلة بكر عن بكرة أبيها، وبدأ ينسج ملحمته
الانتقامية من بين دموع النساء وأشلاء الرجال.
تحولت الحرب من مجرد ثأر إلى لعنة
مستمرة، تنتقل من جيل إلى جيل، ومن موقعة إلى أخرى، بين الكرّ والفرّ، والدم
والرماد. لم تكن هناك خطوط حمراء، ولا خيمة بلا مأتم.
أُنهكت القبيلتان، واشتد الحقد،
وتعاظمت الخسائر، حتى غدت أرض نجد مقبرةً مفتوحة لا تهدأ فيها الرياح. أصبح
الأطفال يولدون في الخيام ولا يعرفون سوى لغة الحرب والغارات والقبور.
لم تكن البسوس تعلم أن صرختها ستخلّد
اسمها في الذاكرة العربية كشعلة الخراب. فقد أصبح اسمها رمزًا لكل فتنة صغيرة تؤدي
إلى مآسٍ كبرى، وسُميت الحرب باسمها رغم أنها لم تحمل سيفًا ولا رمحًا.
دخلت في الحرب قبائل متحالفة مع
الطرفين، وأصبح النزاع قبليًا متشعبًا لا يعرف كيف بدأ ولا إلى أين سينتهي. حتى
أولئك الذين أرادوا السلام، كانوا يُتهمون بالخيانة ويُغتالون سرًا.
الزير سالم لم يكن مجرد فارس، بل شاعر
يدوّن مأساة قومه ويفجر حزنه في قوافي حارقة. تحوّلت أشعاره إلى صرخات قتال، وبات
اسمه يُرعب فرسان بكر من فرط عنفه وبطشه.
لكن الانتقام أعمى، لا يقف عند حدود.
فما لبث الزير أن غرق في أوهام الثأر، وبدأ يشك في الجميع، حتى أقرب الناس إليه.
فخانوه، وأُسِر، وقُتل على حين غفلة، بعدما ضاعت منه القضية وتحولت إلى رماد.
وبينما كانت الحرب تأكل رجال
القبيلتين، كانت النساء تصرخ، والقرى تُحرق، والماشية تُنهب، ولا يُرى في الأفق
غير الدمار. لم تعد هناك أسباب منطقية لاستمرار القتال، سوى جنون الكرامة وغطرسة
الرجولة.
أربعة عقود من القتل والثأر دمرت
اقتصاد القبيلتين، وهجّرت الأهالي، وأدخلت العرب في دوامة من الحروب الانتقامية
التي ستتكرر بصيغ متعددة في العصر الجاهلي وما بعده.
لم تنتهِ الحرب إلا بعدما أدرك كبار
السن من الطرفين أنهم على وشك الفناء التام، فتمت المصالحة بشروط موجعة، لا ترضي
أحدًا بالكامل، لكنها كانت ضرورة للنجاة.
أصبحت حرب البسوس درسًا خالدًا في أن
الحروب لا تبدأ من القتل، بل من الصمت على الظلم، والسكوت عن الكبرياء الزائفة،
وتمجيد الثأر فوق العقل.
توارث العرب هذه القصة جيلًا بعد جيل،
يحكونها على شكل ملحمة دموية وشعرية، تمجد البطولة، وتلعن الغدر، لكنها في جوهرها
تحذير مرعب من غباء الثأر.
قصة البسوس جسّدت كيف أن امرأة غير
محاربة استطاعت إشعال واحدة من أطول الحروب في التاريخ العربي، لتؤكد أن الكلمة
أحيانًا أشد من السيف.
كليب الذي كان يُعتبر أقوى ملوك
العرب، سقط من أجل ناقة، وترك وراءه قبيلة محطمة، وشقيقًا مجنونًا بالثأر، وشعرًا
ينوح على الأطلال.
أما جساس، فلم يهنأ بانتصاره، بل عاش
مطاردًا، منبوذًا، تطارده لعنة الدم ووجوه القتلى التي سقطت بسبب فعلته.
الزير سالم الذي استُنزف في حرب لا
تنتهي، ختم حياته في خيانة، بعدما سقطت قيمه التي نادى بها تحت سيوف الطمع،
والنهايات المأساوية.
عبرت حرب البسوس حدود المكان والزمان،
وأصبحت مرآة للجنون القبلي، ومثالًا لتدمير الذات حين يُقدَّم الكبرياء على العقل،
والثأر على الحياة.
واليوم، لا تزال عبارة "أشعلها
كالبسوس" تُستخدم للإشارة إلى من يتسبب بكارثة من حادث بسيط، وكأن التاريخ
يعيد نفسه بأشكال أخرى، وإن تغيّرت السيوف بالبندقيات.
ورغم مرور القرون، ظلّت حرب البسوس
حاضرة في وجدان العرب، كأنها تحذير أبدي: لا تُهمل شرارة الفتنة، فقد تُحرق
أجيالًا بأكملها.
إنها ملحمة مأساوية، أبطالها رجال
ونساء صنعهم الغضب، وخذلتهم الحكمة، فصاروا رموزًا لما لا يجب أن يتكرر أبدًا.
وسيبقى السؤال المعلق في الذاكرة: كم
من البسوس ما زالت تعيش بيننا... تنتظر فقط ناقة أخرى لتشعل الجحيم؟
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك