"العَظَامَة مَا مِنُوش تَانْتُوْمَا مَغْتَحْصِدُوْش"

"العَظَامَة مَا مِنُوش تَانْتُوْمَا مَغْتَحْصِدُوْش"
قصة قصيرة / الخميس 13 مارس 2025 - 21:00 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/إيطاليا

 في مدخل سوقنا، تسمع: "دَوَا البْرِيوثْ، دَوَا السِّيبانَة، دَوَا الحْكَّة والجْرْبَة، دَوَا العْنين والسَّالْمَة، دَوَا الجَدْري العْوَاقَة"، جميع الأدوية كانت في سوقنا الشعبي إلا دواء الفقر.

تحوّل بوصلة أذنيك فتسمع من الجهة الأخرى، " لِّي ما عَنْدْهَا سَعْد كَسَعْدِي، اللِّي مْشَا عَلِيهَا الرَّاجْل وخْلاهَا، اللِّي ما عَنْدْهَا سَعْد فِي الزَّوَاج، اللِّي غْدَرَتْهَا الكْنَة وفَرْقَتْهَا عَلَى رَاجْلْهَا"، بصوت مسموع وأمام أعين عامة الناس، "العْيَالات مْصَافّين شَادِّين النُّوبَة الكْنَة والعْكُوزَة"، كل واحدة منهن لها طلب، والطلب واحد، كل واحدة تريد أن تحكم البيت وتسيطر .

 تتحرك بضع خطوات فتسمع نغمة أخرى : "التَّالِي مَادَا وَالُو، سَرْبِي قْرَّب يْسَالِي، زِيدِي يَا لْمْرَة البِيجَامَة بْمِيتِين، يَعْطِي لْبَاكْ كِيتِين"، يسبهن وهن يتزاحمن ويشترينها بمختلف الألوان : "القَهْوِي"، "الشُّكْلَاطِي"، "الخْزِي"، "كَرْمُوسِي"، "الخْرَشْفِي" ، غالبًا ما تكون التسميات مرتبطة للأشياء مقرونة بألوان الخضر أو بأشياء من الطبيعة أو تتشابه معها.  

في أسواقنا الشعبية، تجد طبيبًا يعالج جميع الأمراض الجلدية والعضلية وحتى أمراض الدماغ والعيون والأنف والحنجرة تجيد عنده وصفة..، بل حتى الأسنان "عَنْدُو لْقَاطْ".

وفي أزقة السوق أيضًا، الجميع يتوهم أن "الشَّوَّافَة عندها ضَرْبَة بِي بَطْلَة"، تخدع الناس بعبارات غير مفهومة : "" الصْغِيرَة مَادَّاشْ والكْبِير مَادَّاشْ، الطْوِيل مَا دَّاشْ والقْصِير مَا دَّاشْ"، إذن من العفاريت، تترك المستمعين في حيرة من أمرهم ويسرح بالهم في الشك في اقرب المقربين وهذا ما تريده العرافة، فيقعون في فخ تصديق ترهاتها، وغالبا ما تحدث خصامات عائلية مبنية على تصريحات غير مفهومة وغير حقيقية نطقت بها العرافة المشعودة.

بعد أن نتعب من "التَّحْوَاصْ" في سوقنا الأسبوعي الرائع، ونكون قد شبعنا "غْبَرَة" وأكلنا حلوة "المْكَانَة"، التي كان ثمنها خمسة حبات بواحد ريال أي خمسة فرنكات، ونكون قد التهمنا منها حوالي خمسين حبة للفرد مقابل 50 خمسون فرنك، أو تقاسمنا بعضها بيننا أو تبادلنا الحلويات حسب الألوان، نجلس تحت الشجرة الكبيرة العملاقة، حيث يتزاحم البشر والحيوانات على ظلها. "

كَنْدِيرُو بْلَاصْتْنَا مْعَاهُمْ"، وننتظر قدوم الحلايقي الحكواتي "بَا التَّهَامِي العَزْوَة" المشهور بهذا الإسم بكل شغف، ننتظره بلهفة ليحكي لنا قصة جديدة تمتعنا وتضحكنا، ثم نعطيه خمسين فرنكًا ونحصد حفنة كبيرة من الأدعية النقية الخارجة من قلب رجل طيب، مقابل فرجة ممتعة بثمن بخس، لكن القناعة وحب الناس له جعلاه إنسانًا محبوبًا ومجتهدًا في تطوير أدائه لإمتاع معجبيه الذين ينتظرونه بفارغ الصبر كل يوم ثلاثاء.  

الأمر رائع،

لم يخب أملنا، "هَا بَا التَّهَامِي جَا"، يبدأ بالصراخ وكأن مصيبة كبيرة قد حلت : "وَعْتَقُو الرُّوحْ أَعْبَادْ الله والعْدَاوْ"، ويصرخ ويصرخ الكل يلتفت إليه مهرولين، وبابتسامة خفيفة يهدئ من روعهم: "هَا أنْتُمْ قَدْ جِئْتُمْ"، تلك حيلته ليجمع بها الناس حوله. يبدأ قائلاً: "اللِّي وَسَّعْ هَادْ الحَلْقَة الله يُوَسِّعْ عَلِيه ذَائِقَة القْبُورْ"، وفي رمشة عين، يلتف الناس حوله مشكلين حلقة دائرية كبيرة، الكل يتزاحم ليكون في الصفوف الأمامية حيث لم يكن لديه مكبر صوت، فقط صوته القوي وحركاته التي تتناغم مع قصصه الممتعة والهزلية، كان يسرد قصصًا عن الماضي والحاضر والمستقبل.

إنسان طيب، تجد كل من في الحلقة يضحكون ناسين الأحقاد والأحزان، لا أحد يستطيع مقاومة كلماته وحركاته إلا بالاستسلام للضحك.

آلام وإعتصار في البطون وعيون تدمع من شدة الضحك، كان يفرغ فينا شحنة من الفرح والبهجة، يحول واقعنا الصعب إلى سخرية لاذعة نستلذ بها على الأقل نداويها بشيء من الضحك الذي كان يعتبره " أبا التهامي" رياضة للقلب .  

كانت له وصلة خاصة تدغدغ مشاعر أهل البادية، حيث كان في قصصه "العْرُوبِي" دائمًا متفوقًا على "المْدِينِي" لأن السوق أكثر من 95% كانت يعمره أهل البادية "بَا التَّهَامِي العَزْوَة"، كان ذكيا يلعب على هذه النقطة، مما جعل أهل البادية أكثر سخاء وعطاء معه للتشفي في المديني، يستحق ذلك.  

قال لنا ذات مرة: "كَان الفْلَاحْ يَحْرُثْ بْالجُوجَة والحْمَارْ وكَانَت الحْقُولْ مُمْتَلِئَة والخِيرْ فَايْضْ والفْلَاحْ يَتْبَعْ بْهِيمْتُه ولا شِيء فِي فَمُه غِيرْ ذِكْرْ الله.  

جاءت العوْلمة والصناعَة المتطَورة، فصنعَ الإنسان " التْرَاكْتُورْ وفِيه سِجَالَة وكِيحْرُثْ وطَالِقْ كْسِيطَة تُغَنِّي العْظَامَة مَا مِنُوشْ والمَلائِكَة خَلْفُه تُرَدِّدْ تَانْتُومَا مَغْتَحْصُدُوشْ "، نقع أرضًا من شدة الضحك، ونعيش المشهد في مخيلتنا وكأنه أمامنا مباشرة .

حكى لنا الكثير من الحكايات لم تكن عبثية، بل كانت رؤى وتصورات حقيقية لمشاهد نعيشها اليوم في حياتنا، وجهه كان أسود شاحبًا، حفرت سيسان الزمن في خدي وجهه وعلى ملامحه، رسمت التجاعيد خريطة عمره وكيف عاشها، كان ظهره مقوس من ثقل حقيبته التي كان يحملها يوميًا على ظهره ليواصل أداء حلقاته وإمتاع المتفرجين .

مات "بَا التَّهَامِي"، وماتت معه الفرجة وشيء من ذكرياتنا الجميلة، وبقينا نحن نرددها بكل حسرة، الله يوسع قبر "بَا التَّهَامِي" كما دعا لنا عندما كنا صغارًا.  

أكثر اللحظات ألمًا كانت عندما تنتهي الحلقة ويقول بحسرة " والله مَا عَنْدِي مَا نُوكَّلْ وْلَادِي، وحَاصِلْ فِي الكْرَاءْ، والمَرْكُوبْ غَالِي، ورَانِي كَنْجِي عَنْدْ الجْوَادْ بْحَالْكُمْ نَضْحَكْ مَعَاهُمْ ويَحِنُّو عَلَيّاَ"، ليس للضحكة ثمن... سامحنا "بَا التَّهَامِي" ، كنت تعاني في صمت لتسعدنا، وهذا حال الكثيرين يبكون من الداخل بينما يخلقون السعادة للأخرين .

هذه القصة تعكس صورة نابضة بالحياة للأسواق الشعبية كمسرح اجتماعي يعكس هموم الناس وطموحاتهم، حيث تختلط التجارة بالحكايات، والطب بالمعتقدات، والضحك بالمعاناة. فـ"با التهامي" لم يكن مجرد حكواتي، بل كان فنانًا شعبيًا استخدم سحر الكلمة ليحول الواقع الصعب إلى فرجة ممتعة، يجمع الناس حوله، ويمدهم بالضحك كعلاج مؤقت لأوجاعهم.

لكن خلف كل بسمة كان يخفي ألمًا، فبينما كان يسعد الآخرين، كان يعاني من ضيق الحال، وهذا يكشف مفارقة مؤلمة: أحيانًا يكون أكثر الناس قدرة على نشر الفرح هم الأكثر معاناة. رحل "با التهامي"، لكن بقيت حكاياته تذكرنا بأن الضحك ليس مجرد متعة، بل قوة قادرة على جعل الحياة، مهما كانت قاسية، أكثر احتمالًا.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك