أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/إيطاليا
تقول الحكاية إن رجلاً يُدعى "الماضي" قرر دخول عالم السياسة في قريته الصغيرة، مترشحًا في الانتخابات الجماعية برمز "الدَّحْشْ"، متظاهراً بأنه الرجل المناسب لخدمة أهلها، المدافع عن حقوقهم، الساهر على حاجياتهم.
كان يخطب
فيهم بلسان ناعم وكلام منمّق، "رْطُوبِيَّة وَقِلَّةْ لِيدَّامْ
وْلَدْ النَّصَّابْ"، يعدهم بمستقبل
مزهر، ويمنّيهم بتحقيق المعجزات، لكنه لم يكن سوى بائع أوهام محترف.
"الماضي" لم يخدم أحدًا سوى نفسه،
ظلّ لسنوات طويلة يراوغ أهل القرية، وعندما تقترب الانتخابات يعود إليهم بوجهه
البشوش ولسانه الماكر، يتقن فن الوعود الكاذبة، فيأخذهم إلى باب صناديق الاقتراع
بكل مكر، وحين يحين وقت التصويت، كان يمنح النساء "شْرْبِيلًا" والرجال "حْذَاءً"، لكنه لم يكن يعطي إلا فردة واحدة لكل شخص،
قائلاً: "صَوِّتْ عَلَيَّا وَنْعْطِيكْ الْفَرْدَة الثَّانْيَة" وبعد الفوز بالإنتخابات "تْشُوفْ الْغْبْرَة
مْشَا مَا يْجِي تَالْ الْإنْتِخَابَاتْ الْمَاجِيَة"
.
وحين ينجح في الانتخابات، يقول لهم
بكل وقاحة : "هَادِي الشَّرْبِيلْ وْالأَحْدِيَة تْصْلَحْ لِيكُمْ لْلْمْشِي"
عرفتم لماذا "بَاشْ تْحِيدُو مِنْ قْدَّامِي"، لا أحد كان يجرؤ
على مساءلته، ولا أحد استطاع منعه من التلاعب بميزانية القرية، فقد عاث فيها
فسادًا، واكتسب شهرة واسعة بكونه أكبر محتال عرفته المنطقة، صار اسمه مقرونًا
بالنصب، فصاروا يضربون به المثل ويقولون: "مَا كَايِنْ غِيرْ الْمَاضِي اللِّي
فَاتْك – مَا يْقْدْ عَلِيكْ غِيرْ "الْمَاضِي"
.
وبعد سنوات طويلة، قرر
"الماضي" اعتزال السياسة، لم يكن ذلك حبًا في التوبة، بل لأنه صار
مكشوفًا لدى الجميع، ولم يعد يجد من يصدق أكاذيبه، حاول أن يظهر بمظهر الرجل
التائب الذي اختار العيش بسلام بعيدًا عن "وَجَعْ الرَّاسْ"، لكنه ترك خلفه إرثًا من الخداع، فكلما ذكر
اسمه قالوا:
"هَادَاكْ
الْمَاضِي اللِّي خَلَّى الْقْرْيَة فْالْمَاضِي!".
أما ابنه "عيروط"، فلم يكن يختلف كثيرًا عن أبيه، لكنه لم يكن بنفس الدهاء .
عاش طوال
حياته يحمل لقب "وْلَدْ النَّصَّابْ"، وكان كلما حاول
الدفاع عن نفسه، انفجرت ضحكات الناس في وجهه قائلين: "وْلَدْ الْحْنَشْ كَيْكُونْ حْتَى
هُوَ حْنَشْ!" .
كبر
"عيروط" في ظل هذا اللقب، وصار يزعم أنه يريد تغيير صورته، لكن طبع
الاحتيال كان يجري في دمه، فقد تربى في مدرسة "الماضي" وتعلم فنون
الخداع من معلمه الأول .
وذات يوم، وبينما كان "عيروط" يجلس مع أبيه تحت ظل شجرة، لم يعد يستطيع كتمان حيرته، فسأل والده قائلاً : "يَاكْ جْدُودْنَا شُرْفَا وَّاشْ نْقْدَرُو نُولِّيو شُرْفَا ؟" .
ضحك "الماضي" ضحكة ساخرة، ونظر إلى ابنه نظرة العارف بحقيقة الأمور، ثم أجابه بكل برودة : " حْتَّى نْهَارْ يْمُوتُو النَّاسْ لِّي كَيْعْرْفُونَا" .
فهم "عيروط" الدرس جيدًا،
أيقن أن الماضي لا يُمحى، وأن الاحتيال لا يمكن أن يتحول إلى شرف، فالتاريخ لا
ينسى، والناس لا تغفر، وحين يُعرف المرء بلقب سيئ، يصبح من المستحيل تغيير صورته،
مهما حاول التبرير والتظاهر بالعفة.
وهكذا ظل اسم "الماضي" لعنة
تطارد ابنه، وصار الناس يرددون عند ذكرهما "وْلَدْ النَّصَارَى وْلَدْ
النَّصَارَى وْلُو صَلَّى وْصَامْ ميات وعام" .
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك