أنتلجنسيا المغرب:فهد الباهي/إيطاليا
في أعماق قرية نائية، حيث الحياة
قاسية لا ترحم الضعفاء، كانت تعيش "رحمة" مع زوجها "صابر"،
ينعمان بحياة ميسورة، حيث الماشية والخيل والبيوت الرحبة.
لكن تلك الليلة المشؤومة قلبت حياتها
رأسًا على عقب، حينما هاجم لصوص مسلحون خيمتهم، لم يرحموا صابر، بل طعنوه حتى
أردوه قتيلاً، ثم نهبوا كل ما يمتلكانه، تاركين رحمة وحيدة تصارع المجهول، وهي
تحمل في أحشائها جنينها الذي لم يكتب له أن يرى والده.
مرت الأيام والليالي، وتلاشت ثروتها،
لم يعد لها مال ولا سند، فتخلّى عنها الجميع.
لم تستجْدِ أحدًا، بل قررت أن تواجه مصيرها
بنفسها، فعملت في الحقول، وتنقلت بين البيوت تخدم الأغنياء، لا تبالي بحر الصيف
ولا قسوة الشتاء، فقط من أجل لقمة عيش تبقيها على قيد الحياة، وتحمي صغيرها الذي
لم يولد بعد.
حينما جاءها المخاض، كانت وحدها، زحفت
نحو النهر، تقطعت أنفاسها من الألم، حتى وضعت وليدها الذي سمته "ناجح".
لم يكن لديها وقت للبكاء أو
الاستسلام، فبمجرد أن استعادت قوتها، عادت للعمل، والرضيع على ظهرها، تحمله وهي
تحفر في الأرض، تجمع السنابل، وتغسل الأواني في بيوت الأثرياء، رفضت أن تكون لقمة
سائغة للذئاب البشرية التي كانت تساومها على شرفها مقابل المال، لكنها اختارت أن
تبقى طاهرة، ولو كان الثمن الجوع والعذاب.
مرت السنوات، واشتد عود
"ناجح"، نظر إلى أمه التي أرهقتها الحياة، وقال لها بحزم: "يا أمي،
لقد آن الأوان لأتحمل المسؤولية، لن تخرجي للعمل بعد اليوم،" رفضت بشدة، لكنه
أصرّ حتى أقنعها، وخرج يبحث عن رزقه رغم صغر سنه.
عمل نجارا، وعمل حدادا، وجزارا
وبناء..ورسى به الحال مع شيخ عجوز يصنع القفف والحصائر من السمار، تعلّم الصنعة
بسرعة، وبدأ يدّخر بعض المال، حتى تمكن من شراء نعجة، باعها بعد أيام واشترى
اثنتين، ثم بدأ يتاجر بالأغنام، حتى كوّن قطيعًا كبيرًا، فباع نصفه واشترى جملًا
وناقة، شيئًا فشيئًا، تحسّنت أحواله، ولم يدع والدته تحتاج شيئًا، بل أصبح حصنها
الحصين، وحامي شرفها الذي حاول البعض انتهاكه.
وفي إحدى الليالي الحالكة، وبينما كان
ناجح عائدًا من عمله، التقى بشيخ هرم يتكئ على عصاه، طلب منه العون، فسأله ناجح:
"يا عم، أنت لست من أهل القرية، فما الذي جاء بك إلى هنا؟" أجاب الشيخ
بصوت متعب: "يا بني، أبحث عن مأوى في خان أبيت فيه الليلة."
لم يتردد ناجح في دعوته إلى بيته، رغم
رفض الرجل في البداية، لكنه أخيرًا وافق، ودخل الخيمة حيث أعدّت له رحمة الطعام،
أثناء العشاء، لاحظت الأم أن الضيف يتحسس موضعًا معينًا تحت ثوبه ناحية بطنه، كل
لحظة، فبدأ الشك يتسلل إلى قلبها، وأخبرت ابنها أنها تشك فيه "الشيخ"،
وربما يكون قاتلًا أو لصًا.
حكت له عن ليلة الغدر التي قُتل فيها
والده، وكيف خانتهم كلابهم التي كانت تألف اللصوص لكثرة إطعامهم، ولم تنبح تلك
الليلة المشؤومة، "الليلة الصكعة ما ينبحو فيها كلاب" تسللت كلماتها إلى
قلب "ناجح"، فشعر بالخطر، وشدّ سيفه متظاهرًا بالنوم، مترقبًا أي حركة
مريبة من الضيف الغامض.
عند منتصف الليل، استيقظ الشيخ وغادر
الخيمة، فتبعه ناجح بخطوات صامتة، ظنًا أنه يخطط لأمر مشبوه.
لكن الشيخ لم يفعل شيئًا سوى قضاء حاجته في
الخلاء، ثم عاد إلى مكانه بخطوات متعبة، حين طلع الصباح، جلس الثلاثة يتناولون
الإفطار، وحين همّ ناجح بالخروج للعمل، سأل الشيخ: "كيف يمكنني مساعدتك يا
عم؟"
تنهد الرجل وقال: "يا بني، أنا
أبحث عن امرأة تدعى 'رحمة' بنت مسعود، زوجة رجل يدعى 'صابر'، قيل لي إنها كانت
تسكن في هذه القرية" ، تساءل ناجح بدهشة: "وما الذي تريده منها؟".
رد الشيخ: "لي عندها أمانة، يجب
أن أوصلها لها قبل أن توافيني المنية."
عندها، تدخلت رحمة، وقد اغرورقت
عيناها بالدموع، وقالت بصوت مرتجف: "أنا رحمة بنت مسعود، زوجة صابر" .
تجمد الشيخ في مكانه، ونظر إليها
بدهشة، ثم قال: "أيتها المرأة، لقد بحثت عنك طويلًا!"
أخذ الرجل يحكي أنه كان صديقًا مقربًا
لصابر، وفي آخر رحلة له، أودع عنده أمانة من المال والذهب، لكنه لم يعد ليأخذها،
ظل الرجل يبحث عنها طوال السنوات الماضية، حتى اهتدى أخيرًا إلى هذه القرية، لكنه
لم يكن يتوقع أن يجدها بهذا الحال.
فتح صرّته، وأخرج منها ذهبًا وجواهر
وأموالًا، وقال: "هذا مالكِ وحق ابنكِ، تركه لكِ صابر قبل أن يختفي من حياتكِ
للأبد"، بكت رحمة، وشعرت بأن الله قد عوّضها عن كل سنين العذاب.
بفضل هذا المال، تزوج "ناجح"
من أجمل فتيات المدينة، واستقرت حياة رحمة أخيرًا بعد سنوات من العذاب. أما الشيخ
أمين، فقد عاد إلى مدينته بعدما أدى الأمانة.
عاشت رحمة بكرامة حتى آخر أيامها،
وأدرك ناجح أن الصبر والعمل والعفة لا تذهب سدى، وأن الله لا ينسى عباده الصالحين،
ولو تأخر الفرج، فإنه قادم لا محالة.
شيء من الواقع..مع
شيء من وحي الخيال، أبطال القصة من وحي الخيال، أصل القصص خيال.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك