المغرب بين غياب الوسائط واستعجالية المحاسبة

المغرب بين غياب الوسائط واستعجالية المحاسبة
أقلام حرة / السبت 04 أكتوبر 2025 - 13:26 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد الشباب المجيد

بقلم: مصطفى شكري

يعيش المغرب اليوم على وقع أزمة مركبة، لا يمكن اختزالها في مشهد احتجاجي عابر أو في أزمة ظرفية مرتبطة بغلاء الأسعار أو بضعف النمو الاقتصادي، بل هي أزمة بنيوية تتجذر في عمق النظام السياسي والاجتماعي، عنوانها الأبرز غياب الوسائط الحقيقية من جهة، وغياب المحاسبة الجدية من جهة أخرى. هذه الثنائية جعلت البلاد تدور في حلقة مفرغة، حيث يتكرر المشهد نفسه منذ عقود: دولة مركزية قوية، أحزاب ضعيفة، نقابات منقسمة، وجمعيات مدنية رهينة للتمويل أو الرقابة، مقابل مجتمع يغلي تحت السطح، يعبّر بطرق غير مألوفة، ويجد نفسه في النهاية وجهاً لوجه أمام الملك دون وجود جسور مؤسساتية تضمن التوازن.

المؤسسات الوسيطة في أي نظام سياسي حديث ليست ترفاً، بل هي شرط لبقاء الدولة واستمرارها في حالة سلم اجتماعي دائم. ففي الديمقراطيات الراسخة، تشكل الأحزاب السياسية أداة رئيسية لتأطير المواطن وتحويل مطالبه إلى سياسات عامة. تشكل النقابات قوة اجتماعية قادرة على الضغط والتفاوض، وتشكل الجمعيات فضاءً مستقلاً للمجتمع المدني يعكس التنوع والاختلاف ويُبقي على حيوية المجتمع. في المغرب، ورغم وجود هذه الكيانات شكلياً، إلا أنها فقدت جوهرها ومضمونها. الأحزاب اليوم غارقة في صراعات داخلية وسباقات انتخابية موسمية لا علاقة لها بحياة المواطن اليومية. النقابات أصبحت رهينة قيادات متكلسة، تحافظ على مصالح ضيقة أكثر مما تدافع عن الشغيلة. والجمعيات، بدل أن تكون صوت المجتمع، تحولت إلى واجهات تبحث عن الدعم الخارجي أو تشتغل تحت سقف ترسمه الإدارة، ما جعلها عاجزة عن الاستقلالية.

 

في ظل هذا الوضع، ظهر جيل جديد هو جيل Z، الذي وُلد بعد 2012. هذا الجيل فتح عينيه على عالم مختلف، عالم رقمي مفتوح، يتيح التعبير السريع والمباشر عبر الشبكات الاجتماعية، ويمنحه القدرة على خلق فضاءات بديلة لا تخضع لرقابة الدولة ولا لسلطة الأحزاب. هذا الجيل لا يثق في الخطابات الرسمية، ولا يؤمن بجدوى الانتخابات الشكلية، ولا يجد نفسه في الهياكل النقابية أو الجمعوية التقليدية. لذلك، حينما يخرج للاحتجاج أو حينما يصوغ مطالبه، فإنه يتجاوز كل هذه الوسائط ويتوجه مباشرة إلى رأس الدولة، في علاقة مشحونة بالتوتر ومفتوحة على احتمالات غير محسوبة.

التاريخ القريب يؤكد أن غياب الوسائط يؤدي دائماً إلى توترات عميقة. أحداث 2011 في المنطقة العربية كانت في جزء كبير منها نتيجة غياب قنوات للتفاوض والوساطة. في المغرب، ورغم خصوصيته، فإن الحراك الذي شهدته مدن مثل الحسيمة وجرادة أثبت أن المواطنين لم يعودوا يثقون في الأحزاب أو النقابات، وأنهم يعتبرون أن صوتهم لن يُسمع إلا إذا وصل مباشرة إلى المؤسسة الملكية. هذه الوضعية ليست علامة صحة، بل علامة هشاشة، لأنها تضع الملك في مواجهة مباشرة مع الشارع، وتُلغي أي دور لبقية المؤسسات التي يفترض أن تخفف من الاحتقان وتدير الحوار.

لكن المشكل لا يقف عند حدود غياب الوسائط. فالمجتمع اليوم لا يعاني فقط من ضعف القنوات السياسية والاجتماعية، بل يعاني أيضاً من غياب المحاسبة. لا يمكن بناء الثقة إذا ظل الفاسدون والمفسدون في مأمن من العقاب. كيف يمكن أن يُقتنع المواطن بجدوى الإصلاح بينما يرى من نهبوا المال العام يتمتعون بالثروة والامتيازات دون أن تطالهم يد العدالة؟ وكيف يمكن الحديث عن التقشف بينما كلفة هذا التقشف لا يتحملها إلا الفقراء وصغار الموظفين، في حين يعيش كبار المفسدين في رفاهية محمية بالحصانة والولاءات؟ هذا التناقض يفرغ أي خطاب رسمي من مصداقيته، ويؤكد للشباب أن الدولة تساوي بين الضحية والجلاد، وهو ما يعمّق فقدان الثقة.

التجارب الدولية تعطي دروساً واضحة في هذا المجال. ففي إسبانيا، حين خرجت حركة الغاضبين إلى الشوارع، لعبت النقابات والجامعات والجمعيات الطلابية دور الوسيط، فحوّلت الغضب الشعبي إلى مسار سياسي أنتج حزباً جديداً أصبح جزءاً من اللعبة الديمقراطية. في تونس، كان الاتحاد العام للشغل أحد أهم العوامل التي جنّبت البلاد الانزلاق إلى الفوضى، عبر رعاية الحوار الوطني الذي توج بجائزة نوبل للسلام سنة 2015. في جنوب إفريقيا، لم يكن الانتقال الديمقراطي ممكناً لولا وجود وسائط قوية تمثلت في النقابات وحركات المجتمع المدني التي حملت صوت الأغلبية السوداء.

 

المغرب، في المقابل، ظل أسير معادلة غير متوازنة: ملكية قوية تتحكم في القرار، وأحزاب ونقابات وجمعيات ضعيفة لا تقوم بدورها. هذه المعادلة قد تمنح استقراراً سطحياً لبعض الوقت، لكنها في العمق تزرع بذور أزمات متجددة، لأنها تحرم المجتمع من قنوات طبيعية للتعبير والتفاوض. وحين تنفجر الأزمات، يجد الجميع نفسه أمام مواجهة مباشرة بين الدولة والجيل الجديد الذي لا يقبل بالانتظار الطويل ولا بالحلول الترقيعية.

إن استعادة التوازن ممكنة، لكنها تتطلب إرادة سياسية صادقة. فلا بد من إعادة بناء الوسائط على أسس جديدة، تجعل الأحزاب أكثر ديمقراطية ومرتبطة فعلياً بالمجتمع، وتحرر النقابات من منطق الولاءات الضيقة، وتمنح الجمعيات استقلالية حقيقية. وفي الوقت نفسه، لا يمكن لهذه الوسائط أن تستعيد مكانتها دون محاسبة صارمة للفاسدين والمفسدين. فالمغاربة لم يعودوا يقبلون بشعارات فضفاضة، بل يريدون رؤية فعلية لربط المسؤولية بالمحاسبة، وفتح ملفات الفساد الكبرى بلا انتقائية ولا محاباة.

التقشف وحده لن يحل الأزمة إذا لم يُقرن بالعدالة الاجتماعية. لا معنى لأن يُطلب من المواطن العادي أن يشد الحزام بينما النخب السياسية والاقتصادية تتمتع بامتيازات ضخمة. العدالة تقتضي أن يبدأ التقشف من الأعلى، وأن تُردّ الأموال المنهوبة إلى الخزينة العامة، وأن يشعر المواطن أن الدولة لا تساوي بين من ينهب المال العام ومن يعيش بالكاد لتأمين قوت يومه.

إن المغرب يقف اليوم أمام مفترق طرق حقيقي. إما أن يظل في دائرة الأزمات المتكررة نتيجة غياب الوسائط وغياب المحاسبة، أو أن يختار مصالحة جديدة مع المجتمع قوامها بناء وسائط مستقلة وفاعلة، وفتح ملفات الفساد بشجاعة، وإعطاء معنى حقيقي للتقشف عبر ربطه بالعدالة الاجتماعية. الخيار الأول يعني استمرار الاحتقان وفقدان الثقة، والخيار الثاني يفتح الباب أمام بناء سلم اجتماعي دائم وتجربة ديمقراطية لها مضمون حقيقي.

المستقبل لن يُبنى بالخطابات ولا بالشعارات، بل بالمؤسسات القوية والعدالة الناجزة. والشباب الذي أصبح يخاطب الملك مباشرة ليس خطراً في ذاته، بل هو إنذار مبكر بأن الوسائط قد انهارت وأن الوقت حان لإعادة بنائها. فإذا أُخذ هذا الإنذار بجدية، فقد يكون مدخلاً لإصلاح عميق يعيد للديمقراطية معناها، أما إذا تم تجاهله، فستظل البلاد تدور في حلقة مفرغة بين احتجاجات عفوية واستجابات جزئية لا تعالج جوهر الأزمة.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك