بقلم: مصطفى شكري
تتجذر منظومة
الفساد في المغرب في أعماق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث أصبحت
خيرات البلاد تُدار بعقلية الغنيمة لا بعقلية التنمية. فبدل أن تكون الثروة وسيلة
لخدمة المواطن، تحولت إلى مصدر امتياز لفئة محدودة من المنتفعين الذين يملكون
النفوذ والسلطة والمال، ويتحكمون في كل مفاصل الاقتصاد الوطني.
في قطاع
العقار، تتجلى صور الفساد في أبشع أشكالها. تُمنح الأراضي الشاسعة في مواقع
استراتيجية بثمن رمزي أو عبر صفقات مغلقة، بينما يُطرد المواطنون البسطاء من بيوتهم
بحجة الاستثمار أو التهيئة الحضرية. مشاريع فاخرة تُقام على حساب معاناة الفقراء،
والمدن تتسع فيها الفوارق الطبقية بشكل صارخ، بين من يملك الأرض ومن يُقصى منها.
وفي قطاع
المعادن والذهب، تُستخرج الثروات في صمت تام، وتُصدر كميات ضخمة إلى الخارج دون
وضوح أو شفافية حول العائدات الحقيقية. الشعب لا يعلم شيئًا عن مصير هذه الموارد
التي تُدار بمنطق المصالح الخاصة لا المصلحة الوطنية. أما الثروة السمكية، فالمحيط
الأطلسي الغني بالأسماك أصبح مجالًا مفتوحًا للاستنزاف، تُمنح فيه رخص الصيد
لشركات محظوظة، فيما يُقصى الصيادون التقليديون ويُتركون لمصيرهم.
وفي ما يتعلق
بالفوسفاط، الثروة الوطنية الكبرى، فقد تحول إلى رمز للاحتكار. عائداته الضخمة لا
تُترجم إلى تحسين في التعليم أو الصحة أو المعيشة، بل تذهب إلى تمويل مصالح ضيقة
لا يعرف عنها المواطن شيئًا. وهكذا، تبقى الثروة بيد القلة، بينما يعيش الأغلبية
في الفقر والتهميش.
رجال السلطة
وكبار الموظفين لا يكتفون بالرواتب والامتيازات القانونية، بل يحصلون على أراضٍ
ومساكن ومشاريع بطرق غير شفافة، تحت غطاء “تشجيع الاستثمار”. تُوزع الأراضي
العمومية في الخفاء، وتُحوَّل المشاريع التنموية إلى مصدر ربح شخصي، لتتكرس من
جديد فكرة أن النفوذ طريق مضمون إلى الثروة.
ومع تفاقم
الفساد، تتضاعف الديون التي تثقل كاهل الدولة. فبينما تزخر البلاد بموارد طبيعية
هائلة، يعيش المغرب تحت عبء مديونية ضخمة، تُستعمل أغلبها لتمويل مشاريع لا يستفيد
منها المواطنون. القروض التي تُبرَّر باسم “التنمية” تتحول إلى وسيلة لتغذية نفس
الشبكات الاقتصادية التي تتحكم في السوق. وفي الوقت نفسه، تُستثمر أموال ضخمة خارج
البلاد في مشاريع لا تنعكس على الاقتصاد الوطني، مما يجعل المغرب يخسر مرتين: مرة
بالديون، ومرة بتسرب الثروة.
إلى جانب ذلك،
يزداد تركيز السلطة الاقتصادية في أيدي نخبة محدودة تفرض وجودها في كل مشروع ناجح.
كثير من المستثمرين الصغار والمتوسطين يجدون أنفسهم مضطرين إلى إشراك جهات نافذة
في مشاريعهم أو بيع حصصهم تحت الضغط، لتتحول السوق إلى فضاء مغلق لا مكان فيه
للمنافسة الحرة. هذا الواقع يقتل روح المبادرة، ويجعل النجاح في المغرب مخاطرة بدل
أن يكون مكافأة.
الأخطر هو ما
يحدث داخل بعض المؤسسات المالية التي يفترض أن تكون نموذجًا للشفافية والثقة. هناك
تسريبات غير معلنة لمعلومات اقتصادية ومصرفية تُستعمل أحيانًا لتمرير صفقات أو
لتصفية حسابات اقتصادية. تُمنح القروض الكبرى للمقربين، وتُرفض لمقاولين أكفاء لا
يملكون العلاقات المناسبة، فيتحول النظام البنكي إلى أداة بيد المصالح بدل أن يكون
وسيلة لدعم الإنتاج الحقيقي.
بهذا الشكل،
تتواصل حلقة الفساد والديون والاحتكار، ويتحول الاقتصاد الوطني إلى فضاء مغلق
تحكمه المصالح المتشابكة بين المال والسلطة. المواطن العادي هو من يدفع الثمن
دائمًا: ضرائب مرتفعة، خدمات متردية، غلاء متصاعد، وأمل يتلاشى. وهكذا تُنهب خيرات
البلاد مرتين، مرة باسم الاستثمار، ومرة باسم التنمية.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك