
بقلم : نادية عسوي
أتفرج هذا الصباح، بدافع لحظة طفولية،
على حلقة من سلسلة كورتكس ومينوس.
يسأل مينوس ببراءته المعتادة: "ماذا سنفعل هذه الليلة يا برين؟" فيردّ برين بثقته المعهودة: "سنحاول أن نسيطر على العالم!"
لكن في تلك الحلقة، لم يكن هناك مختبر ولا آلات، بل غابة إفريقية كثيفة. وهناك، وسط الأدغال، بدا برين ــ الذي اشتهر بدهائه وخططه المعقدة ــ عاجزًا تمامًا، بينما مينوس، الذي اعتاد الجميع وصفه بالغباء، كان الأقدر على البقاء: وجد الطعام، خطط للهروب، وتأقلم مع الطبيعة ببساطة وفطرة.
ابتسمت وأنا أحتسي قهوتي: أليست هذه صورة مصغّرة عن حياتنا؟ لا يجب أن نختزل الأمور في أبيض وأسود، في عبقري مطلق أو غبي أبدي. فالعقل لا يضيء كل الزوايا في وقت واحد، والظروف وحدها تكشف أي وجه فينا يتجلى.
التاريخ نفسه مليء بالمفارقات:
يومًا ما كانت الأرض مسطحة في أذهان الناس، ومن قال بكرويتها نُعت بالجنون.
في زمن محارق الساحرات، عوقب العلماء بالنار لأن جهل الناس رأى في علمهم سحرًا.
ثم جاءت جائحة كورونا لتكشف وجهًا آخر
للغباء الجماعي: حين ظنّ البعض أن الحجر الصحي مجرد مؤامرة، فتمرّدوا، فأصابوا
أنفسهم وأحبّتهم، وأزهقوا أرواح الأبرياء.
وفي حرب أوكرانيا، ينقسم الناس بين من يرى في زيلينسكي قائدًا مقاومًا، ومن يراه مقامرًا بمصير شعبه. لكن الحقيقة أعقد من أن تُختزل في بطولة أو خيانة، فالذكاء والغباء هنا نسبيان، يختلفان باختلاف زاوية النظر والتجربة.
ومن الغباء أيضًا أن نظن أن من انتخبناهم سيحققون كل أمانينا. سواء كان رئيس دولة، أو رئيس جمعية، أو رئيس نقابة… فإنه في النهاية يسعى إلى ما يراه هو مناسبًا، وفق رؤيته ومصالحه. الانتخاب لا يعني تحقيق أحلامنا، بل منح شخص آخر شرعية ليمضي في طريقه هو. فالسياسة ــ في كل مستوياتها ــ ليست وعدًا بالعدالة المطلقة، بل إدارة متقلبة بين قوى ومصالح، يتحقق فيها بعض ما نرجو ويُهمَل الكثير.
الذكاء والغباء إذن ليسا صفات جامدة، بل نسبية متبدلة تتشكل عبر التجربة.
أينشتاين وُصف في طفولته بالبلادة لأنه تأخر في الكلام، فإذا به يغير وجه العلم.
بيتهوفن أصمّ، فإذا بموسيقاه تخترق صمت الأذن إلى صخب الروح.
فيكتور هوغو منفيّ، فإذا بالمنفى يمنحه "البؤساء"، رواية خالدة عن العدالة والرحمة.
حتى نحن، في تفاصيل حياتنا اليومية، نتأرجح بين الغباء والذكاء. قد نبدو أغبياء في موقف وعباقرة في آخر. الفارق هو التجربة؛ فهي التي تحوّل الغباء إلى بصيرة، والسقوط إلى درس، والخطأ إلى حكمة.
ومع آخر رشفة من قهوتي، أهمس لنفسي:
لسنا عباقرة دائمًا، ولسنا أغبياء
أبدًا. نحن فقط بشر… نتعلم. وما يراه الناس اليوم سذاجة قد يُكتشف غدًا أنه
عبقرية، وما نصفه اليوم بالذكاء قد يدوّنه التاريخ يومًا كغباء.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك