بقلم : د.إيمان الرازي
فاعلة سياسية وأستاذة الجامعية .
ترددت كثيرا قبل الخوض في كتابة رد على ما صرح به مؤخرا الأخ حسن
نجمي في لقاء تلفزي، والذي أصر في هذا المقام، أن أناديه بالأخ أي بلغتنا
الاتحادية التي تمتح من قاموس الأخوة والنبل والاحترام مهما بلغت درجة الاختلاف،
لكنه وللأسف، اختار أن يعلن وفاتنا دفعة واحدة فكرة وأفرادا، بدون مقدمات ولا
معطيات ولا حتى أرقام، نعم قال أن الحزب أصبح جثة هامدة لم تدفن بعد، كيف ومتى
وأين لا علم لنا ولا له بذلك.
لكن حين يختار شاعر أو مثقف أو مناضل أن يعبّر عن رأيه في قضايا
الحزب، فإننا لا نملك إلا أن نصغي إليه باحترام، خصوصًا إذا صدر الرأي عن اسم له
تاريخه ووزنه الرمزي كما هو حال الباحث في العيطة الأخ حسن نجمي. ولأننا في
الاتحاد الاشتراكي تعودنا أن نستمع إلى أبنائه، سواء اتفقنا معهم أو خالفناهم،
فإننا لا نردّ على المواقف بردود انفعالية، بل نحاول، بقدر ما نستطيع، أن نستند
إلى قيم التحليل السياسي الرصين والوفاء لمشترك نضالي هو أوسع من الأشخاص وأعمق من
اللحظات العابرة.
غير أن النقد الذي يُمارس من خارج البيت لا يُعامل كنقد داخلي، ولا
يحمل صفة المراجعة المخلصة بقدر ما يغدو أحيانًا إدانة من موقع خارجي لا تربطه
بالبيت سوى ذاكرة قديمة أو مرارة حاضرة. فأن تغادر البيت بمحض إرادتك، وأن تعلن
تجميد نشاطك واستقالتك من المكتب السياسي، هو قرار نقرّ لك بحقه، ونحترم خلفياته،
مهما اختلفنا معها. لكن من مقتضيات هذا القرار، أن تعترف بأنك صرت خارج دوائر
الفعل الجماعي، ولم يعد لك أن تتقمّص دور المراقب المتألم، أو أن تنصّب نفسك
شاهدًا على ما تسميه سقوطًا أخلاقيًا وتنظيميًا.
إن السياسة، كما الشعر، تتطلب قدرا كبيرا من الالتصاق بالحياة
اليومية للفكرة، لا بالحنين المجرد إليها. تتطلب أن نبقى، لا أن ننسحب ثم نعود
بصيغة الرثاء، وكأننا أمام كائن يحتضر، ننتظر وفاته لنبكي عليه. ونحن إذ نحترم من
اختار المغادرة، من فقدوا جذوة الشغف أو من اعتبروا أن الفكرة قد غادرت الجسد،
فإننا نطلب منهم أيضا أن يحترموا حقّ من بقي في الحلم، من لا يزال يقاوم ولو حتى
الرمق الأخير، من يرفض أن يشيّع الاتحاد كلما اختنقت اللغة أو تعثّر الإيقاع
التنظيمي.
الاتحاد، بكل ما يحمله من عثرات وصعوبات، ليس هيكلا ميتا، لكنه مشروع
مفتوح على الاحتمال. والفكرة التي جمعتنا ذات زمن، لا تزال تضيء لنا الطريق، وإن
بخفوت. نحن من اختار البقاء، لا عن غفلة أو استسلام، بل عن وعي بأن السياسة ليست
تمرينا في الصفاء، بل معاناة يومية بالغة التعقيد، وسباق مرير ضد الاستهلاك
والانطفاء.
لا نطلب من أحد أن يعود رغما عنه، ولا ننتظر عند باب البيت طلته، ولا
أن يكتم ألمه أو نقده، لكن نطلب فقط شيئا من الأمانة في التقدير، واحترام حقنا في
الاستمرار. لا نعادي من غادر، لكن نرفض أن يُملي علينا كيف نعيش حزننا أو أملنا.
لأننا بساطة نحن لم نُدفن بعد، ولم نُكفَّن، فلا داعي لمشاعر العزاء ولا لقصائد
الرثاء. حين نموت فعلا، حين تلفظ الفكرة أنفاسها الأخيرة، حينذاك لك ولمن لف لفك،
لكم جميعا كامل الحق في أن تكتبوا عنا تأبينا بليغا يليق بنا وتبعثروا رماد جثتنا
المحروقة في الأنهار والبحار والآبار. أما الآن، فنحن أحياء نحفر في الصخر، ونبحث
في ركام اللحظة عن قبس يعيد المعنى لما تبقى ووميض نور في آخر النفق.
ومن غادر البيت لأنه لم يعد يراه بيتا، لا يمكنه أن يدّعي الحزن على
خرابه، ولا أن ينصّب نفسه وريثًا شرعيًا لروحه. الفكرة لا تموت ما دام هناك من
يدافع عنها، وما دام فيها من يتشبث بها كما لو أنها آخر ما تبقى لنا من زمن التردي
والنكوص الذي نواجهه بما نحمله من أفكار قوامها الكرامة والوضوح.
نعلم جيدا أن أفق المشاركة السياسية قد ضاق، بتعدد زواج السلطة
بالدين والمال، لكننا، رغم ذلك، لم نغادر، لأننا نؤمن أن من يترك الميدان، لا يحق
له أن يُلقي علينا دروس البكاء، أو يقدّم تعازيه في فكرة لا تزال تنبض في دواخلنا،
ولو على وقع جراح لم تندمل بعد.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك