"عبدالحق الريكي"..الذاكرة والريف والسياسة (الجزء الثاني)

"عبدالحق الريكي"..الذاكرة والريف والسياسة (الجزء الثاني)
أقلام حرة / السبت 21 يونيو 2025 - 07:00 / لا توجد تعليقات:

 بقلم: عبدالحق الريكي

جدّي الذي دُفن في صمت، تحت إسمنت النسيان 

قال أحدهم :

"الذين لا قبور لهم، لا أحد يزورهم… لكننا نزورهم في ذاكرتنا، في شتات الصور، وفي ما لا يُقال."

ظِلٌّ في البيت… وظلٌّ في التاريخ.

كبرتُ في بيت لا صور فيه لجدّي الا صورة يتيمة، ولا حديث عنه. لا قبر نزوره، لا يوم وفاة نُحييه، لا حكاية مكتملة تُروى عنه. كنت أسمع اسمه همسًا في كلام النساءوالرجال، أو في نبرة ارتباك حين يفتح أحدنا موضوع "أجدير" أو "عبد الكريم الخطابي" …

اسمه الحقيقي: موح الحاج أفقير.

أما الإسبان فسمّوه "إنريكي". هكذا قرروا أن يحرفوا الأسماء، ويعيدوا صوغ الهويات كما يشاؤون. ومن هنا، حمل أحد أبنائه (أبي ومن بعد أنا وأولاد أبي وعمي)، عن غير وعي، ولكونه تم رفض (في فترة الاستقلال) أسماء مثل " الورياغلي" "الأجديري"، لقب "الريكي"، ثم صار ذلك الاسم لقبًا للعائلة.

من أجدير إلى المجهول

كان جدّي من بني ورياغل، من أجدير، مسقط رأس الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي.وحارب مع هذا الأخير كما حارب كل الريفيين الأحرار ضد احتلال الريف من طرف المستعمر الإسباني. في صيف 1936، مع بداية الحرب الأهلية الإسبانية، جُنّد قسرًا للقتال مع جيش فرانكو. لكنه، كما يحكى، هرب سباحةً من الباخرة قبل أن تُبحر إلى جبهة القتل…

اختفى بعدها.

يُقال إنه وصل الجزائر، ومنها إلى الدار البيضاء (منطقة الحماية الفرنسية)، و"تزوج" هناك، وأنجب طفلًا لقّبوه بـ"وْلْدْ الريكي .لكن الحنين شدّه إلى أجدير، فعاد سرًا، ليلتقي بزوجته وأبنائه… وهنالك، انتهت القصة.

اعتقال… إعدام… ودفنٌ بلا شاهد.

تم اعتقاله فور وصوله إلى أجدير، ثم نُقل إلى تطوان، حيث جرت تصفية كثير من المقاومين في صمت. لكنه لم ينتهِ.

في تطوان، بالضبط في السجن المدني الاسباني، بين 1947 و1949 على الأرجح أو تاريخ آخر، تم إعدامه سرًا، ودُفن في منطقة تم لاحقًا تغطيتها بالإسمنت والبنايات في عهد الاستقلال. اليوم، تمرّ فوقه الشوارع والسيارات، ولا أحد يعلم أن تحت تلك الأرض، يوجد رجل اسمه موح الحاج أفقير مع آخرين...

 الصمت الذي يخنق العائلات.

لم يكن الصمت اختيارًا، بل خوفًا… حتى داخل البيت، كانت أمي تخفض صوتها حين تتحدث عنه، وتطلب منّي ألّا أكرر كلامها خارج المنزل... قالت لي يومًا:

"والدك منعنا نحكيو فهاذ الشي، السياسة تجيب غير الصداع…"

لكنني لم أكن أرى في الأمر سياسة، بل بحثًا عن جدّي… عن ذاكرتي… عن معنى العدالة... لأنني رأيت أبي يبكي مرتين في حياته يوم يذكر أباه (أبي مات سنة 1999)...

 لماذا أكتب الآن؟

لأني أخاف من أضيع ذكرياتي... لأني رفضتُ أن يُدفن جدّي مرتين: مرة في قبر مجهول، ومرة في ذاكرة ميتة. ولأني مؤمن أن الريف لا يشفى من جروحه بالنسيان، بل بالاعتراف. ولأني أعرف أنني لست وحدي… كثيرون يحملون نفس الحكاية بصيَغ مختلفة، لكنها تنتهي جميعها بنفس العبارة: "مات… وماعرفنا عليه والو."

 نداء مفتوح :

أتوجه اليوم، بصفتي حفيدًا لا مؤرخًا، لا باحثًا أكاديميًا، بنداء مفتوح إلى من يملك وثيقة، شهادة، صورة، أو سطرًا في أرشيف قديم عن الرجل الذي سمّوه "إنريكي"، وكان اسمه الحقيقي موح الحاج أفقير. أبحث عنه لا لأنني أريد الثأر، بل لأن الذاكرة أمانة، ولأن من لا يعترف بشهيده، يُعيد قتله كل يوم. خاصة ان هناك في إسبانيا يبحثون عن قبور"الجمهوريون، النقابيون، اليساريون، وكل من عارض فرانكو"...

إنني أكتب لأُحرّر ذاكرة أمي  - أطال الله في عمرها لأنها قربت المائة سنة من عمرها - وخاصة أبي رحمه الله …

ولأعيد الاعتبار لرجلٍ لا قبر له، لكن له في قلبي، وفي الريف، مقامٌ لا يُمحى.

لا أبحث عن ثأر. بل عن حقيقة...

لأن الذاكرة أمانة...

لأن من لا يعترف بشهده، يعيد قتله كل يوم....

مهم :

ورغم أن الكتابة لم تكن سهلة عليّ، فقد ساعدني الذكاء الاصطناعي، ومنحني فرصة التعبير عمّا كان مستعصيًا. ومع ذلك، فإن جميع الأفكار الواردة في هذا المقال تعبّر عن آرائي الشخصية وحدي. أقول هذا من باب الأمانة والإنصاف، وأتحمّل المسؤولية الكاملة عن كل فكرة وكل كلمة وردت فيه. وكما يُقال في أروقة المحاكم: إنني أتحمّل وحدي كامل المسؤولية عن هذا المقال.

 

 

 

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك