حقوق الإنسان بشعار عالمي والمعتقلون الإسلاميون خارج العدالة(النص الكامل لكلمة مصطفى كريمي)

حقوق الإنسان بشعار عالمي والمعتقلون الإسلاميون خارج العدالة(النص الكامل لكلمة مصطفى كريمي)
تقارير / السبت 13 دجنبر 2025 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب:عبد الفتاح الحيداوي

ألقى مصطفى كريمي، المنسق العام لـ"التنسيقية المغربية لقدماء المعتقلين"، كلمة وصفها المتتبعون بالمؤثرة، بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، الذي يصادف الـ11 دجنبر من كل سنة.

وتطرق المنسق العام، إلى مجموعة من النقاط الهامة والحساسة، المتعلقة بقدماء المعتقلين الإسلاميين المغاربة.

وهذا النص الكامل للكلمة كما توصلت الجريدة بنسخة منه:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تحيَّةٌ تقديريَّة، وبعد…

في هذه الذكرى الذي يقفُ فيها العالَمُ للإحتفالِ بما يسمِّيه اليومَ العالميَّ لحقوقِ الإنسان، نقفُ نحنُ هنا أمام صفحةٍ مختلفةٍ تمامًا صفحةٍ لا تعرفُ الاحتفال ولا تعرفُ الشعاراتِ اللامعة، ولا التصفيق لأنَّها صفحةٌ تروي قصةَ فئةٍ من أبناءِ هذا الوطن ما زالت تنتظرُ أن تُسمَعَ أصواتُها، وما زال جرحُها مفتوحًا، وما زالت العدالةُ غائبةً عن مصيرِها. تلك الفئةُ هي المعتقلون الإسلاميون، سابقُهم وحاضرُهم، الذين لم يجدوا من حقوقِ الإنسانِ سوى العنوان، ولم يجدوا من الإنصافِ سوى الكلام، ولم يجدوا من الاهتمامِ سوى التجاهلِ والتأجيل.

إنَّ التنسيقيةَ المغربيةَ لقدماءِ المعتقلين الإسلاميين لم تولَد من فراغ، بل وُلِدت من ألمٍ ثقيل، ومن مسارٍ مريرٍ عاشَه مئاتٌ من المواطنين؛ اعتُقِلوا في ظروفٍ معقَّدة، ومرُّوا بمحاكماتٍ مرتبكة، واتُّهِموا وأُدينوا بشكلٍ لم يحترم أبسطَ مقوِّماتِ العدالة. عاشوا التعذيبَ الجسديَّ والنفسيَّ، وحُرِموا من حقوقِهم الأساسية، وعندما غادروا الزنازينَ وجدوا أنفسهم في مواجهةِ مجتمعٍ متوجِّس، ومؤسَّساتٍ مغلقة، وفرصٍ انهارت أمامهم قبل أن تبدأ.

جاءت التنسيقيةُ كجدارٍ يحتمي به هؤلاء، وكصوتٍ يجمعُ شتاتَهم، وكحُلُمٍ بجبرِ ضررٍ حقيقيٍّ يُعيدُ اعتبارَهم الإنسانيَّ والاجتماعي. فهي لم تكن تجمُّعًا يصرخُ من أجلِ الغضب، بل كانت إطارًا يسعى لرفع الظلم، وتوثيقِ التجاوزات، وطرقِ أبوابِ المؤسَّساتِ بخطابٍ مسؤولٍ وهادئ، ومبنيٍّ على الملفات الموثقة. وظلت التنسيقيةُ على هذا النهجِ رغم العقبات، لأنها تؤمن بأنَّ الإنسان لا تُردُّ إليه كرامتُه بالضجيج، بل بالصبرِ والمرافعةِ والمثابرةِ والحقِّ.

إنَّ مسارَ هذا الملفِّ لم يكن يومًا سهلًا، ولا مزدهرًا بالوعود، بل كان طريقًا طويلًا من الألمِ والصبرِ والخذلان. فمنذ سنواتٍ والتنسيقيةُ تحاول أن تضع هذا الملفَّ في مكانه الطبيعي: ملفُّ ظلمٍ وقع على مواطنين، لا ملفُّ تصنيفاتٍ ولا قراءاتٍ أمنيةٍ ضيّقة. وكان هدفُ التنسيقية دائمًا هو أن يصل صوتُ الضحايا إلى المؤسَّسات والهيئات الحقوقية بكل صدقٍ ووضوح، بعيدًا عن أيِّ توظيفٍ أو تسييسٍ أو مزايداتٍ صغيرة لا تخدم الحقيقةَ ولا تنصفُ المظلومين.

لقد واكبت التنسيقيةُ — عبر مراحلَ متعددة — محطاتِ الحوار، ومحاولاتِ البناء، وملفاتِ التوثيق، وتقديمَ الشهادات، والصراعاتِ اليومية مع التجاهلِ والصمت. واستمرَّت رغم محدودية الإمكانات، ورغم أنَّ بعضَ المؤسَّساتِ حاولت التعاملَ معها كملفٍّ اجتماعيٍّ بسيط، متناسيةً حجمَ الانتهاكاتِ التي رافقت الاعتقالَ والتعذيبَ والمحاكماتِ الماراثونية، وعمقَ الآثارِ النفسيةِ والاجتماعيةِ التي لا تزالُ تلازمُ الضحايا إلى اليوم.

وإذا كان الحديثُ عن أبرزِ الاختلالاتِ الحقوقية المرتبطةِ بملفِّ المعتقلين الإسلاميين السابقين طويلًا ومتشعِّبًا، فإنَّ الثابتَ فيه هو أنَّ الملفَّ ظلَّ مؤطَّرًا أمنيًّا بشكلٍ يُفرِغُ الحلولَ من مضمونها، ويجعلُ المقاربةَ الحقوقيةَ شكليةً لا أثرَ لها على أرض الواقع.

ورغم كل ذلك، فإنَّ مطلبَ الضحايا لم يكن يومًا خارج إطار البلاد، ولم يكن سوى: إنصافٌ، وعدالةٌ، وجبرُ ضرر. هذا الحقُّ الذي لا ينتقصُ من الدولة، ولا يسيءُ إليها، بل يُعزِّزُ ثقةَ المواطنين في مؤسَّساتِها، ويمحو آثارَ سنواتٍ من القهرِ والتألمِ والوصمِ الاجتماعي.

لكن حين نعودُ إلى تفاصيل هذا الملفِّ، فإننا نقفُ على اختلالاتٍ عميقةٍ يجب أن تُقال كما هي، دون تجميلٍ ولا خوف؛ لأن الجرحَ لا يلتئم بالسكوت، ولا تلتئم المظالمُ بالمداراة.

لقد اعتُقِل الكثيرُ من هؤلاء في ظروفٍ غامضة، ودون ضماناتٍ حقيقيةٍ للمحاكمة العادلة، وكانوا ينتقلون من جلسةٍ إلى أخرى وهم يعلمون أنَّ الحكمَ جاهزٌ قبل أن تبدأ المرافعات. وجاءت شهاداتٌ كثيرةٌ توثق تعذيبًا قاسيًا تعرَّض له بعضُهم من تعليقٍ وضربٍ وصعقٍ وإهانةٍ وحرمانٍ من النوم، ومن الزيارة، ومن العلاج… وهي وقائعُ تركت آثارًا تمتدُّ إلى اليوم؛ آثارًا لا تُرى بالعين، ولكنها تعيشُ في الذاكرة، وفي الجسد، وفي الخوفِ الصامت.

داخل السجون عاش كثيرٌ منهم في عزلةٍ خانقة، وفي زنازينَ ضيقة، وحُرِموا من حقوقٍ بسيطةٍ كالتكوينِ والعلاجِ والتواصل. ولم يكن الأمرُ عقوبةً قانونية، بل عقوبةٌ ممتدةٌ تضرب الإنسان في جوهره، وتلتهمُ سنواتِ عمره بصمتٍ لا يسمعه أحد. وما زال المعتقلون الإسلاميون — إلى الآن — داخل السجون يعيشون أوضاعًا لم تتغيَّر كثيرًا؛ يعيشون التضييقَ في التنقل، والعقابَ الجماعي، والحرمانَ من الزيارة والبرامج، وكأنهم ملفٌّ محكومٌ بقراراتٍ غير مرئيةٍ تتحكم في مصيرهم وتمنع وصولَ صوتهم.

ثم خرج بعضُهم من السجن ليجدوا سجنًا آخرَ ينتظرُهم؛ سجْنًا بلا قضبان، لكنه أشدُّ وجعًا: سجنُ النظرةِ المجتمعية، والتهميشِ الإداري، وغيابِ الفرص، ومنعِ الإدماج، ومنعِ الحقِّ في استعادةِ حياةٍ طبيعية. عادوا ليكتشفوا أنهم غيرُ مرئيين، وأن كلَّ بابٍ يفتح لغيرهم ويُغلقُ في وجوههم، وأن الماضي يُلاحقهم كظلٍّ ثقيلٍ لا يريد أن يرحل.

ومع كل هذا، كان المنتظرُ أن يكون المجلسُ الوطنيُّ لحقوقِ الإنسان سندًا لهم، وحاملًا لمعاناتهم. لكن ما حدث كان صدمةً كبيرةً؛ لأن المجلس — بدل أن يتعامل مع هذا الملف كقضيةِ ظلمٍ واعتقالٍ وتعذيبٍ وجراحٍ مفتوحة — اختار أن يحيله على مؤسسةٍ اجتماعية، وكأن القضيةَ مجردُ طلبِ تشغيل، أو بحثٍ عن مساعدة! وكأن سنواتِ الاعتقال وما رافقها من انتهاكاتٍ أصبحت مجردَ ورقةٍ إدارية يُمكن تحويلُها من مكتبٍ إلى آخر، دون مسؤوليةٍ ولا اعتراف. وقد شعر الضحايا بأن المجلسَ — الذي كان يفترض أن يكون صوتَهم — قد تخلى عنهم، واختار الطريقَ الأسهل بدل الطريق العادل، فزاد ذلك الجرحَ عمقًا، وأضاف إلى الألم ألمًا اسمه: التجاهل.

وزاد الجرحُ اتساعًا أنَّ بعضَ المنابرِ الإعلامية لم تنقل الحقيقة، بل شيطنت الملفَّ، وقدَّمت المعتقلين الإسلاميين على أنهم "بُعْبُعٌ" وخطرٌ وتهديد، وصنعت حولهم صورةً مشوَّهة، لا علاقةَ لها بالواقع. ولم تُكلِّف نفسها عناءَ الاستماعِ لمعاناتِهم، أو تفكيكِ حقيقةِ ما تعرضوا له، بل ساهمت في خلق رأيٍ عامٍّ متوجس، يرفض الإنصافَ قبل أن يفهم القضية. ورفعت الظلمَ بدل أن تكشفه، وزادت التمييزَ بدل أن تعالجه؛ حتى صار الضحايا يقاتلون من أجل "حقٍّ أساسيٍّ واحد": أن يسمعهم أحدٌ بإنصاف.

واليوم نضيف سؤالًا آخر موجعًا: لماذا هذا التناقضُ الصارخ، والازدواجيةُ القاتلة؟!

عندما تصعد النخبُ السياسيةُ إلى قبة البرلمان، تتحدث عن جميع المعتقلين السياسيين بكل قوةٍ وحرارة، لكنها لا تذكر المعتقلين الإسلاميين! لماذا الصمتُ الانتقائي؟ ولماذا هذا الحذفُ المتعمَّد من قائمة الضحايا؟ هل توجد في دفاترهم الحقوقية مادةٌ تبيحُ هذا التمييز؟ وهل تُصنَّف الكرامةُ حسب العناوينِ والانتماءات؟ أم أنَّ العدالة صارت تُمنحُ للبعض، وتُسحبُ من البعض؟

ولماذا المنظماتُ الحقوقيةُ والجمعيات تخرج للشارع، وتندد بالانتهاكات، وتصدر البيانات… ثم تقف صامتةً أمام ملفِّ المعتقلين الإسلاميين؟ هل هو غيابٌ للمعلومة؟ أم انتقاءٌ للمظلومية؟ أم خوفٌ من الاقترابِ من ملفٍّ مؤطَّر أمنيًا بحزمٍ يمنع الاقتراب منه؟ لماذا يتحول الضحيةُ هنا إلى منطقةِ صمت لا يجرؤ كثيرون على دخولها؟

إن هذا الصمتَ المؤلم علامةٌ على خللٍ عميقٍ في فهم العدالة، وعلى تمييزٍ غير معلنٍ يُمارَس ضد فئةٍ كاملةٍ من أبناء الوطن؛ تمييزٍ لا يستقيمُ مع أي قيمةٍ إنسانية، ولا مع أي مبدأٍ مُنصِف.

واليوم — ونحن في هذا اليوم العالمي لحقوق الإنسان — نجد أنفسنا أمام سؤالٍ حارق: ماذا يفيد الاحتفالُ العالميُّ إن كان المعتقلون الإسلاميون خارجَ دائرةِ الإنصاف؟ ماذا يعني رفعُ الشعارات إن بقيت جراحُهم بلا علاج؟ ماذا يعني الحديثُ عن الكرامة، وهناك رجالٌ خلف القضبان يعيشون معاناةً يومية، وآخرون خارجها محرومون من أبسط حقوقهم؟

إن العدالةَ الغائبة يجب أن تعود؛ لأن غيابها يعني استمرارَ الألم، واستمرارَ الظلم، واستمرارَ النزيف. إنَّ جبرَ الضرر ليس تعويضًا ماليًا فقط، بل هو اعترافٌ رسميٌّ وشجاع، وردُّ اعتبارٍ معنويٍّ واجتماعي، وإعادةُ إدماجٍ حقيقية، ومعالجةُ آثارِ التعذيب، وتوثيقُ الذاكرةِ حتى لا يتكرر ما حدث.

وإننا نوجِّه نداءً صادقًا إلى المنظمات الحقوقية، والجمعيات المدنية، والأحزاب السياسية؛ نداءً يحمل وجعَ سنواتٍ، وصوتَ ضحايا لم يجدوا من يسمعهم. فهذا ليس ملفَّ فئةٍ تبحث عن منفعة، بل ملفُّ مواطنين تعرضوا للظلم، ويريدون الإنصاف؛ ملفُّ وطنٍ جُرح في إحدى صفحاته ويريد أن يلتئم؛ ملفُّ كرامةٍ لا ينبغي أن يبقى في الهامش.

إن اليومَ العالميَّ لحقوق الإنسان يجب أن يكون يومَ صدقٍ ومراجعة، وسؤالًا كبيرًا: ماذا فعلنا من أجل ضحايانا؟ وماذا قدمنا لمن عاشوا الظلمَ في صمت؟ ومتى نعيدُ العدالةَ إلى مكانها الطبيعي؟

وحين نجيب بصدق، نكون قد بدأنا الطريقَ الصحيح: طريقَ إنصافِ كلِّ ضحية، دون تمييز، ودون انتقاء، ودون خوف.

وفي خضم هذا المسار الطويل، جاءت الخطوةُ الجديدة التي تستحق التوقف عندها؛ إذ حطَّت تنسيقيةُ الكرامة واليقظة للعدالة الانتقالية أولى خطواتها العملية، من أجل الدفع في اتجاه جبر ضرر المعتقلين الإسلاميين وغيرهم. وقد كان ذلك واضحًا في الندوة الأخيرة المنعقدة بالرباط، بقاعة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، تحت عنوان: شهادات المعتقلين الإسلاميين حول التعذيب. كانت تلك الندوة رسالةً واضحةً بأن مرحلةً جديدةً قد بدأت؛ مرحلة تعتمد على الشهادات الموثقة، والعمل الميداني، والتحرك الحقوقي الحقيقي.

وفي نهاية هذا المسار، لا بد أن نقف وقفةَ تقديرٍ واحترام لكل الشجعان، أصحابِ الضمير الحي، الذين أسسوا "تنسيقية الكرامة واليقظة للعدالة الانتقالية"، وعلى رأسهم الأستاذ العلمي الحروني؛ تلك الشخصية التي لم تُتاجر بآلام الضحايا، ولم تُساوم على حقوقهم، بل حملت همَّ هذا الملف بكل شجاعةٍ ومسؤولية. وقد أخذت هذه التنسيقيةُ على عاتقها مهمةَ الدفاع عن جميعِ المعتقلين، سواء المفرج عنهم أو الذين ما زالوا خلف القضبان، دون أيِّ تمييزٍ أو فرزٍ أو حساباتٍ ضيّقة، معتبرةً الجميع ضحايا يحتاجون إلى الإنصاف وإعادة الاعتبار.

إن تنسيقيةَ الكرامة واليقظة للعدالة الانتقالية ليست مجرد إطارٍ جديد، بل هي ملاذٌ ومسارٌ وأفقٌ نتمنى من الحقوقيين، والمعتقلين السياسيين، والمحامين الشرفاء، وجميع الغيورين على العدالة والكرامة الإنسانية، أن يلتحقوا به؛ حتى يتحول هذا الجهدُ إلى قوةٍ جماعية، ومسارٍ وطنيٍّ صادق، يُعيد للضحايا حقوقَهم، ويعيد للملفِّ مكانته، ويعيد للوطن جزءًا من عدالته المفقودة.


لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك