قصة الطفل المتخلى عنه عندما نصفه القدر

قصة الطفل المتخلى عنه عندما نصفه القدر
قصة قصيرة / الأحد 01 يونيو 2025 - 10:00 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب:الرباط

كانت المدينة نائمة، أو بالأحرى تتظاهر بالنوم، حين حملت الريح صراخًا خافتًا لا يأتي من فم بشري، بل من خرقة ملطخة بالطين، موضوعة بإهمال على عتبة كنيسة مهجورة، هناك، في زاوية مظلمة من حيّ الفقراء، وُلد طفل دون أن يُولد، كُتب له أن يبدأ حياته من أقسى نقطة في الخريطة، دون اسم، دون أمّ تشدّه إلى صدرها، دون أب يتفاخر بقدومه، وُجد، فقط، كما يُلقى حجر في بئر، بلا صوت ولا رجع صدًى.

لم يكن يعرف من الذي وضعه هناك، ولم يكن لأحد أن يهتمّ لمعرفة ذلك، وحده حارس الكنيسة العجوز، الذي كان يشرب نبيذه الرديء تحت صليب خشبي مهترئ، التفت إليه في لحظة ضجر وقال: "إميل، نعم… سنسميك إميل"، ثم عاد إلى صمته.

نشأ إميل في بيت للأيتام، حيث الرائحة الوحيدة التي تسكن الجدران هي رائحة الحساء البارد والخوف. لم يكن البكاء مفيدًا هناك، فالبكاء يُستهلك في اليوم الأول، ثم يصبح عبئًا على الحلق وعلى الأذنين. في كل صباح، كان الأطفال يُساقون مثل قطيع إلى حجرات ضيقة يتعلمون فيها الأبجدية المبتورة، ويعودون ليلًا إلى أسرتهم المعدنية، حيث تتكدس الأحلام المهترئة. أما إميل، فلم يكن طفلًا كسائر الأطفال.

لم يكن يضحك، ولا يبكي. فقط يحدق في السقف كأنه يبحث عن تفسير ما، عن صدع، عن مخرج من هذا العدم المُنمق. منذ نعومة أظافره، بدأ يشعر أن العالم مكان خُلق ليُعاقب الفقراء، وأن الله ربما كان قد نسيه هناك عمدًا، ليختبر كم يستطيع إنسان أن يتحمل دون أن ينكسر.

حين بلغ التاسعة، نُقل إلى مدرسة صناعية على أطراف المدينة، حيث الجدران عالية والأسلاك مشدودة والوجوه مصقولة بالكدمات، كانت مؤسسة لا تخرج عباقرة، بل عمّالًا، فيها يتعلم الأطفال كيف يصبحون تروسًا في ماكينة لا ترحم، وكيف يطأطئون رؤوسهم أمام المدير، ويهتفون بانضباط قبل بدء كل نوبة: "العمل شرف".

إميل لم يهتف. لم يكن عصيانًا، لكنه كان غريبًا، يتقن الصمت أكثر من أي صوت آخر.

كانت عيناه تُراقبان التفاصيل الصغيرة: البراغي الصدئة، أيادي المعلمين المرتجفة، خطوات المراقبين، وأصوات الآلات التي تئنّ أكثر مما تعمل. صار فتىً يجيد الحديد أكثر من الحبر، يصنع من القطع القديمة أشياء لا حاجة لها، لكنه يجد فيها معنى، قطعة وراء أخرى، كأنه يعيد تشكيل عالمه المكسور.

وفي الجهة المقابلة من السور العالي، كان مصنع الغزل، حيث يعمل آباء التلاميذ وأمهاتهم، حيث العرق لا يتوقف، والماكينات لا تنام، والأنفاس تخرج ثقيلة من صدور تتقن الصبر.

ذات يوم، حين توقفت إحدى الآلات بسبب خطأ في التوصيلات، دخل إميل، دون إذن، أصلح العطب في لحظة، ثم عاد دون أن يلتفت.

تساءل العمال عن هذا الفتى الغريب.

أحدهم قال: "عيناه لا تشبهان عيوننا، فيهما شيء من النار، شيء لا يُطفأ بسهولة". ومنذ تلك اللحظة، صار اسمه يُتداول همسًا بين العمال، كأنهم يتوقعون منه شيئًا لم يأتِ بعد.

وفي شتاء دامٍ، قررت الإدارة خفض أجور العمال دون سابق إنذار، وقالت أن السوق يتراجع، وأن التضحية ضرورية من أجل "استمرار الإنتاج"، بدأ التململ، ثم الغضب، ثم التوتر، وإميل، الذي كان دائمًا يراقب بصمت، وقف يومها على منصة عشوائية، وصاح لأول مرة: "نحن لا نطلب المعجزات، بل فقط ألا نُذلّ مقابل لقمة الخبز التي نصنعها بأيدينا".

كانت الجملة بسيطة، لكنها خرجت من قلب محترق، فاشتعلت في الحناجر، وصار صوته هو صوتهم.

تم القبض عليه في المساء ذاته. ضُرب، أُهين، ووضِع في زنزانة مظلمة في قبو الإدارة. خمسة أشهر قضاها هناك، لكن الظلمة لم تسكن فيه، بل صارت وقودًا جديدًا. على الجدران، نقش بقطعة مسمار صدئ كلمات تظل تلازمه حتى مماته: "في الصمت تنمو الثورات".

خرج إميل من السجن رجلًا دون أن يبلغ سنّ الرشد. لم يكن في وجهه لحية، لكن في ملامحه تجاعيد من سبقوه زمنيًا بعقود من الشقاء. عاد إلى المصنع، ليس كعامل، بل كرمز. باتت نظراته وحدها تحرك العمّال.

لم يكن يحتاج إلى خطاب، فالمآسي تُفهم بنظرة.

أسّس، في الخفاء، خلية صغيرة من العمال والطلبة والحرفيين. لم تكن لديهم أسلحة، بل فقط كرامة مجروحة، وحنين إلى حياة لم يعرفوها بعد.

وحين اجتاحت القوات النازية بلاده، لم يكن في نية إميل أن يهرب. قال ذات ليلة لرفيقه وهو يوزع منشورات في حي الموانئ: "هذه الحرب ليست حرب جيوش فقط، إنها حرب الكرامة أيضًا. وإن خسرناها، خسرنا ما تبقى من إنسانيتنا".

بدأ العمل السرّي. كان ينسخ الشعارات على ورق قديم: "نحن العمّال لا نُقهر"، "سلاسلهم لا تصمد أمام مطارقنا"، "النازية عدوّة الفقراء".

كانت تلك الكلمات تزرع في الأزقة كأنها أزهار مقاومة.

وحين تم تفجير محطة القطار التي كانت تستخدمها القوات النازية لنقل الأسلحة، لم يكن أحد يتوقع أن من خطط للعملية هو نفس الفتى الذي كان بالأمس يغسل يديه من زيت الماكينات، كتب بعدها بخط يده على سور مهجور: "هذا ليس انتقامًا، بل تذكير بأننا لم نمت بعد" .

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك