بين الأكاديمي والمخبر…حين يتحوّل الفكر إلى أداة وصاية

بين الأكاديمي والمخبر…حين يتحوّل الفكر إلى أداة وصاية
أقلام حرة / الاثنين 06 أكتوبر 2025 - 16:30 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد الشباب المجيد

بقلم: مصطفى شكري

في كل مرة يطل فيها عبد الرحيم المنار السليمي على شاشة أو منبر إعلامي، يزداد اليقين بأن الرجل لا يتحدث بصفته أستاذاً في العلوم السياسية، بل بصفته صوتاً متقدماً للسلطة، يلبس لباس الأكاديمي ليمرر خطاباً مكرراً ومطبوخاً على نار الخوف من الوعي الشعبي. فالرجل لا يناقش الواقع بقدر ما يحاول تأطيره داخل منطق السيطرة. يتحدث عن الشباب وكأنهم خطرٌ قادم، لا طاقةٌ متجددة. يتحدث عن الوعي كتهديدٍ أمني، لا كحقيقة اجتماعية. هكذا ينقلب الفكر إلى وصاية، والبحث إلى بلاغ أمني بعباراتٍ ناعمة.

في حديثه الأخير ضمن برنامج “مع يوسف بلهيسي”، بدا المنار وكأنه يكرر نفس المعزوفة الرسمية التي سئمها الناس: الشباب واعٍ لكنه يحتاج إلى من يرشده، منفتح لكنه قابل للاختراق، نقدي لكنه ساذج سياسياً. في الظاهر خطابٌ علمي متزن، وفي العمق تخويفٌ ممنهج من وعيٍ لا يمكن التحكم فيه. المفارقة أن المنار يصف جيل Z بأنه يمتلك وعياً سياسياً واجتماعياً متقدماً، ثم يضيف أنه “أكثر عرضة للاختراق والتحريض من جهات داخلية وخارجية”. أي منطق هذا؟ كيف يمكن لجيلٍ واعٍ نقدي أن يكون في الوقت ذاته هشاً وساذجاً؟ إنها الازدواجية التي تختزل خوف النخب التقليدية من وعيٍ خرج عن السيطرة ولم يعد يقبل التوجيه من فوق.

خطاب المنار ليس جديداً، بل هو تكرارٌ لذهنية ترى المجتمع من نافذة المكتب الأمني. يختبئ وراء لغة أكاديمية لكنه يتحدث كمن يحمل تقريراً في جيبه. حين يقول إن الشباب “يفتقر إلى قيادات يمكن الحوار معها”، فهو لا يدرك أن هذا الجيل لا يريد قيادةً من أصله، لأنه جرّب القيادات الحزبية والنقابية والفكرية ولم يجد فيها سوى الوصاية والتبعية. الشباب اليوم يفضّل أن يتكلم بنفسه، بلا وساطة، بلا وصي، بلا زعيم. وما يراه المنار فراغاً في القيادة، يراه الشباب تحرراً من كل الأشكال القديمة التي أوصلت البلاد إلى هذا الانسداد السياسي والاجتماعي.

 

المنار في حديثه لا ينتصر للعلم، بل يبرّر الخوف. يدعو إلى “توعية الشباب بالمخاطر”، لكنه لا يدعو إلى الإصغاء إليهم. يطلب “تأطيراً رقمياً”، لكنه لا يطلب مشاركةً سياسية. يطالب بـ“متابعة الظواهر الرقمية”، أي مراقبتها، لا بفهمها أو التفاعل معها. هكذا يتحول الأكاديمي إلى أداة ضبطٍ ناعم، يبرّر السلطة بدل أن ينتقدها. ومتى فقد الأكاديمي استقلاله الفكري صار مجرد لسانٍ ناعم ليدٍ خشنة.

جيل Z لا يحتاج إلى حماية فكرية من أحد، بل إلى ثقةٍ سياسية من دولته. هو جيل يعرف أكثر مما يُقال له، يرى أكثر مما يُعرض عليه، ويفكر خارج الحدود التي رسمتها النخبة القديمة. هذا الجيل لا يعيش داخل المعجم السياسي التقليدي، ولا يخاف من السؤال، لأنه يدرك أن السؤال بداية التغيير. بينما المنار وأمثاله لا يزالون يتعاملون مع الوعي كتهديدٍ محتمل، ومع الحرية كحالةٍ طارئة يجب ضبطها. لذلك يفضّلون أن يبقى الشباب مؤطراً تحت وصاية “الخبراء”، وأن تبقى الكلمة الأخيرة عند من يملك الميكروفون لا من يعيش الواقع.

إن مشكلة المنار ليست في أفكاره، بل في موقعه الرمزي. فهو يمثل نموذج الأكاديمي الذي هجر الجامعة والتحق بالمنصة الإعلامية، ليصبح جزءاً من منظومة تبريرٍ أكثر منها منظومة تفكير. من المفترض أن يكون الأكاديمي ضمير المجتمع، لا صوته الرسمي. أن يزعج السلطة بأسئلته، لا أن يطمئنها بتحليلاته. أن يكون مرآة النقد، لا مرآة التكرار. لكن المنار اختار الطريق الأسهل: أن يتحدث باسم الدولة، لا باسم الحقيقة. أن يُخيف من الوعي بدل أن يُنير طريقه. وهنا تكمن المفارقة الكبرى بين الباحث والمبرر، بين الفكر الحر والخطاب الموجه.

في هذا المفصل الدقيق، ينبغي التمييز بين الأكاديمي الحقيقي والمحامي عن السلطة.

الأكاديمي يُفكّك الخطاب ولا يخاف من نتائجه، يشتغل بالعقل لا بالموقع، ويضع الحقيقة قبل الولاء.

أما المحامي عن الدولة، فيلبس عباءة التحليل ليقدّم المرافعة ذاتها كل مرة: الدفاع عن النظام، تخويف الناس من التغيير، وتحويل النقد إلى مؤامرة.

الأكاديمي يكتب من داخل قاعة البحث، بينما المحامي يصرخ من داخل قاعة المحكمة.

الأول يسأل “لماذا”، والثاني يبرّر “لأن الدولة قالت ذلك”.

المنار، للأسف، اختار المرافعة على البحث، والدفاع على التحليل، فصار لساناً لا ضميراً.

الحقيقة أن الخطر على استقرار المغرب ليس جيل Z، بل الخطابات التي تُحوّل الوعي إلى تهمة، والمطالب المشروعة إلى “اختراق”. الخطر الحقيقي هو هذا الخوف المزمن من النقد، وهذه الحاجة الدائمة إلى من يقول “احذر” بدل أن يقول “تقدم”. الشباب ليسوا ضد الدولة، بل ضد الصمت. ليسوا ضد الاستقرار، بل ضد الجمود. ليسوا ضد النظام، بل ضد النظام الذي يرفض التغيير.

جيل اليوم لا ينتظر مناراً يضيء له الطريق، لأنه يملك نوره الخاص. نور المعرفة، نور السؤال، نور الوعي الذي لا يحتاج وصاية أحد.

والأكاديمي الذي يخاف من الوعي، إنما يخاف من فقدان سلطته الرمزية أمام جيلٍ لم يعد يقرأه، بل يقرأ الواقع مباشرة دون وساطة.

المنار السليمي لم يدرك بعد أن زمن الوصاية انتهى، وأن من يريد أن يتحدث باسم الجيل الجديد عليه أولاً أن يسمعه لا أن يحذره.

فالوعي لا يُخاف منه، بل يُبنى عليه. أما الأكاديميون الذين اختاروا أن يكونوا ظلاً للسلطة، فسينتهي أثرهم بانتهاء خطاب الخوف ذاته.

جيل Z لا يبحث عن زعيمٍ يقوده، بل عن وطنٍ يثق به. ولا ينتظر من يُرشده، بل من يفهمه. الوعي ليس خطراً على الوطن، بل هو فرصته الأخيرة. والخوف منه هو بداية السقوط في عزلة فكرية، لن تنقذها أي بلاغات أمنية متنكرة

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك