ملحمة ملائكة الأرض بين السلطات الإدارية وجمعية إكرام الميت "بسيدي يحيى الغرب" مقبرة تتحول إلى واحة بفضل سواعد المتطوعين وغيرة الشرفاء

ملحمة ملائكة الأرض بين السلطات الإدارية  وجمعية إكرام الميت "بسيدي يحيى الغرب" مقبرة تتحول إلى واحة بفضل سواعد المتطوعين وغيرة الشرفاء
مجتمع / الأحد 18 مايو 2025 - 21:49 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا المغرب:فهد الباهي/م.إيطاليا

في زمنٍ شحّت فيه المبادرات الصادقة، وتراجعت فيه روح التطوع أمام زحف المصلحة الخاصة، بزغ نور إنساني نادر من قلب مدينة "سيدي يحيى الغرب"، حيث تحوّلت مقبرة المدينة الإسلامية إلى مسرح لملحمة خالدة يسجلها التاريخ 2025، أبطالها رجال ونساء جمعهم حب الخير وحرمة الموتى.

منذ صباح يوم الخميس 08 من ماي، انطلقت جمعية "إكرام الميت" في عملها التطهيري الشاق، متحدية الإمكانيات المحدودة، ومعتمدة على تبرعات بسيطة من متعاونين وذوي الموتى، لم يكن في الحسبان أن تتحول هذه المبادرة إلى حدث مؤثر تتفاعل معه المدينة بكاملها.

باشا المدينة، السيد "الحسين لطفي"، لم يقف متفرجاً، بل انخرط بروح وطنية عالية في المبادرة، مجنداً من ماله الخاص خمسة عمال لمدة أسبوع كامل، ليضع بذلك نموذجاً للمسؤول الميداني الذي يقدّم قبل أن يطلب، تصرفه لم يكن عادياً بل كان رسالة قوية للإدارة المحلية أن تكون سنداً للناس لا عبئاً عليهم.

لمدة عشرة أيام متواصلة، تجند أعضاء الجمعية ومتطوعون آخرون على تنقية مقبرة مترامية الأطراف، غمرتها الأعشاب الضارة، وطمست ملامح قبورها النفايات والقارورات المتناثرة، المشهد لم يكن عادياً، بل كان صرخة في وجه الإهمال ونداءً للحفاظ على قدسية المكان.


ما زاد من زخم المبادرة هو التحاق ساكنة المدينة من مختلف الأعمار، فتيات وشبان، نساء ورجال، كلهم لبوا نداء جمعية "إكرام الميت"، وفي مشهد نادر، عمّ التعاون والغيرة على المقبرة التي تمتد على مساحة تفوق "ثمانية هكتارات"، وكان حضورهم علامة فارقة في تخفيف الضغط عن المتطوعين الذين اشتغلوا بلا انقطاع.

رئيس الجمعية، "بوشعيب بلبالي"، لم يخفِ تأثره أمام هذا التلاحم المجتمعي، مشيراً في تصريحاته إلى الدور البطولي الذي لعبه السيد "كريم الراضي"، الذي تكفل بتوفير 16 عاملاً وأدوية لمعالجة الأعشاب السامة والحشرات التي تهدد زوار المقبرة.

هذه المبادرة التي انطلقت بنية حسنة، سرعان ما تحولت إلى مدرسة للتطوع والتآزر، حيث ساهم فيها أبناء وبنات المدينة من الداخل والخارج، متحدين الحدود والمسافات، ليشاركوا في ردّ الجميل لأرض احتضنت آباءهم وأجدادهم في صمتها الأبدي.

ما جرى في مقبرة "سيدي يحيى الغرب" لم يكن مجرّد تنظيف موضعي، بل كان فعلاً حضارياً بامتياز، يلقّن المجتمع دروساً في احترام الموتى وتقديس ذكراهم، في زمن باتت فيه القبور تُنسى، وتُهمل، وتُرمى للنسيان.

الأعشاب التي غطت القبور لم تكن مجرد نباتات برية، بل كانت رمزاً لإهمال سنوات طويلة، وبإزالتها، أعاد المتطوعون الاعتبار للقبور، وجعلوا منها أماكن يمكن زيارتها بكرامة واحترام دون أن تُداس حرمة من فيها تحت أقدام المتجولين.

المبادرة، ورغم بساطتها، كانت قوية الأثر، فقد بعثت الحياة في المقبرة، لا بالموتى بل بالأحياء الذين تهافتوا لإكرام من غابوا في التراب، في زمن كثرت فيه الشعارات وقلّت فيه الأفعال، أعطى شباب ونساء سيدي يحيى الغرب درساً في الفعل النبيل.

الصرامة في التنظيم، والتفاني في العمل، والعطاء دون انتظار مقابل، كلها كانت سمات هذه الأيام العشرة التي صنعت الفرق، وأثبتت أن الإرادة المجتمعية حين تتحرك، لا تقف في وجهها قلة الإمكانيات.

مقبرة "سيدي يحيى الغرب" اليوم ليست فقط أنظف، بل هي أكثر احتراماً، أكثر روحاً، أكثر إنسانية، لقد تحولت إلى فضاء يبعث على السكينة، بعدما كانت مهملة كأن لا أحد يعنيه أمر من يرقدون فيها.

جمعية "إكرام الميت" التي أشرفت على العمل، لم تطلب مقابلاً، ولم تستعرض إنجازاتها، بل أهدت كل مجهوداتها إلى الله، وأكدت على أن الأهداف كانت وما تزال إنسانية بحتة، هدفها صون حرمة الأموات قبل أن تكون استعراضاً لمبادرة موسمية.

لا يسعنا إلا أن ننحني إجلالاً لهذه السواعد النظيفة التي صنعت هذه الملحمة من مسؤولين ومتطويعين ومتطوعات من أبناء وبنات سيدي يحيى الغرب، والقلوب النقية، التي علمتنا من جديد أن الحياة لا تكتمل إلا حين نحترم موتانا كما يجب، فتحية لكل من حمل مجرفة، وكنس تراباً، ورفع قنينة مهملة، وأي مبادرة مهما كانت لا نستصغرها في سبيل إحياء كرامة دفنت تحت أعشاب الإهمال.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك