بقلم : د.محمد أحدو
لم تكن السياسة عبر التاريخ في المجتمعات البشرية عموما ، بما فيها المجتمعات
العربية، سوى حقل مُذكَّر بامتياز؛ إذ ارتبطت القيادة والسلطة والهيمنة بصفات
ذكورية مُهيمنة. فلا يعني هذا بالضرورة حصر المشهد في جنس الذكور، بل يعني سيادة
الأنماط السلوكية الذكورية التي أصبحت هي المحرك الأوحد والرسمي للفعل السياسي
وتدبيره . وقد أدت هذه الذكورة السياسية، بمسارها الطويل من الممارسة السياسية في
المجتمعاتنا ، إلى ترسخ منزلقات أدت
بدورها إلى أعطاب جسيمة في البناء السياسي والاجتماعي لازلنا نجني نتائجه من خلال
التراجعات الحاصلة .
وتتجلى
الذكورة في المفهوم السياسي العربي عبر التمركز على السلطة الأحادية ذات الملمح
الاقصائي ، حيث يُصوَّر القائد كأب مُطلق
السلطة يمتلك الحقيقة، ويرفض مبدأ التداول
أو الشراكة، مما يؤدي إلى الاستبداد وتغييب دور المؤسسات لصالح الإرادة الفردية.
كما ينزلق هذا الخطاب الذكوري نحو تفضيل
القوة الخشنة والعسكرة، والتعويل على الحلول الأمنية والمغامرات غير المحسوبة
بدلاً من الدبلوماسية والتنمية المستدامة. هذه العقلانية الأداتية لا ترى في
السياسة سوى صراع صفري، مما يغذي خطاب الإقصاء الذي يبني المشهد على ثنائيات حادة
(نحن/هم، الولاء/الخيانة)، ويُقصي كل صوت نقدي أو معارض، الأمر الذي ساهم في حالات
كثيرة في تفكيك النسيج الاجتماعي وخلق بيئة سياسية سامة وهشة.
أمام هذا
المشهد الذكوري الذي يهيمن على الفعل السياسي
العربي الذي أدى إلى تراجع منسوب السياسة والتعاطي معها كبوابة إصلاح ،
تزايدت الدعوات إلى تخليق المشهد السياسي عبر الانفتاح على "الأنوثة"
وفسح المجال لها ، إنها رؤية بدأت تتجذر
في الفكر العربي المعاصر، بالنظر لما حققته من أضافات في النموذج الغربي الحداثي
اليوم، حيث يرى المفكرون والنقاد
العرب أن
عقلية الذكورة السياسية أصبحت في مأزق، وهو ما أكدته نتائج عقود من الحكم
الأحادي مع هيمنة الذكورة ومنطقها .
إن هذه الدعوة
لا تقتصر فقط على مطالب الكم (زيادة تمثيل النساء)، بل هي دعوة إلى تغيير نوعية
القيادة والأداء السياسي. وقد أشار المفكر اللبناني علي حرب (1) ، في سياق نقده للعقل
الإقصائي الذكوري ، إلى ضرورة "تأنيث العقل والعمل السياسي" كشرط للتخلص من هذه الأنماط العنفية
والاستبدادية التي تطبع العقلية الذكورية العربية عبر تاريخ ممارسة السياسية في
اقطارنا . هذا يتجلى في المطالبة بدمج السمات الأنثوية السياسية مثل: الاحتواء
والتجميع الذي يعزز الشراكة والاستماع إلى الأصوات الهامشية، والرعاية والتنمية
المستدامة التي تحول الموارد نحو الاستثمار في الإنسان وتضمن جودة الحياة للأجيال
القادمة.
كما أن التحرر
من سطوة الذكورة السياسية يعني التحول نحو الحوار والتفاوض وتفضيل الوسائل
الدبلوماسية المرنة، وإظهار القدرة على التعاطف وقبول الحلول الوسطى، مما يكسر
دائرة العنف والانتقام المتبادل في إدارة الصراعات. إن الرؤى العربية الناقدة ترى
أن فشل المشاريع التنموية والسياسية الكبرى ارتبط بغياب مبدأ الصبر والتفكير طويل
الأمد الذي تمتاز به "الأنوثة" السياسية، في مقابل الإصرار على القرارات
الانفعالية والمخاطرة غير المحسوبة التي
تطبع السلوك الذكوري المهيمن الذي تغلب عليها المصلحة الذاتية والتفرد في القرار
والفعل والممارسة .
فلقد أثبت
مسار الذكورة السياسية لوحده بنظر علي حرب عدم قدرته على تحقيق الاستقرار
والازدهار الحقيقي في ممارسات السياسية.
فبناء دولة قوية ومزدهرة، كما تنادي الرؤى العربية الإصلاحية، يتطلب تحقيق
التوازن؛ أي دمج القوة الموجهة (السمة الذكورية) مع الحكمة المحتضنة والرعاية
المسؤولة (السمة الأنثوية). هذا التكامل هو وحده الكفيل بترميز المشهد السياسي،
وتحويله من مجال للصراع والإقصاء إلى فضاء للشراكة والتنمية المستدامة.
(1) علي حرب
." الممنوع والممتنع : نقد ذاتي للعقل والعمل " دار الساقي ، بيروت .
2000
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك