بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي/بيروت
بن غفير يلاحق الأسرى المحررين في منفاهم
كأنهم لم
يتحرروا من السجون والمعتقلات الإسرائيلية، التي خرجوا منها بموجب صفقة تبادل
الأسرى الأخيرة مع المقاومة الفلسطينية، التي قضت بالإفراج عن مائتين وخمسين
معتقلاً من المحكومين بالمؤبد لمرةٍ واحدةٍ أو أكثر، إلى جانب مئاتٍ آخرين من
معتقلي قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر، إلا أن سلطات الاحتلال التي قتلت المئات من
الأسرى وأعدمتهم، خلال جلسات التحقيق وأثناء التعذيب، وأثناء عمليات النقل
والترحيل، لم تلتزم بالمعايير المتفق عليها بموجب خطة السلام، ولم تنفذ الالتزامات
التي وافقت عليها وتعهدت بها، بل تلاعبت بالمعايير، وعدلت في القوائم، واعترضت على
أسماء، واستبدلت بعضها وفق هواها، ورفضت الإفراج عن الأسرى الكبار والقادة
والرموز، وامتنعت عن تقديم كشوفٍ بأسماء المعتقلين لديها، حيث قتلت الكثير منهم
وما زالت تقتل، ورفضت تسليم جثامين الشهداء واحتفظت بها.
فرح الأسرى الفلسطينيون المحررون بخروجهم من السجون والمعتقلات الإسرائيلية، واستبشروا خيراً بالحرية التي رأوا شمسها وتنسموا عبيرها، ومنَّوا أنفسهم بأيامٍ سعيدة وليالٍ جميلة يعوضون بها ما فاتهم في سنوات اعتقالهم المريرة الطويلة، فلا قيود ولا أغلال، ولا سلاسل ولا أكياس، علهم ينسون فيما بقي من عمرهم مرارة السجن وقسوة السجان، وعتمة الزنازين، وخشونة جدرانها وسماكة أبوابها، ورداءة طعامها وسوء أحوالها، وقد ظنوا أنهم أصبحوا بمأمنٍ من السجان الإسرائيلي الذي كان يسومهم سوء العذاب، ويمارس ضدهم شتى أنواع الضرب والقهر والقمع والتعذيب، وأنهم تخلصوا وإلى الأبد من قوانين السجون والمعتقلات القاسية، فلم يعد لسلطات الاحتلال وجلاوزة السجون والمعتقلات عليهم أي سلطة أو سطوة.
وكانت الصفقة
قد قضت بإبعاد عشرات الأسرى المحررين خارج حدود فلسطين، ومنعت خروجهم إلى الضفة
الغربية، ورفضت إقامتهم في قطاع غزة، ما اضطرهم للقبول بالنفي والإبعاد، فظنوا
أنفسهم أنهم أصبحوا في كنفٍ أهلٍ ورعاية إخوانٍ، وأنهم في أماكن إقامتهم الجديدة
في مأمنٍ وسلامٍ، لن يضاموا ولن يظلموا، ولن تصل إليهم يد بن غفير ولن تطالهم
سياساته التي أوغل فيها وتطرف، وقسى فيها وتشدد، ولن تتمكن سلطات الاحتلال
الإسرائيلي من التغول عليهم والتدخل في شؤونهم، وستنسى وقد خرجوا من سجونها أمرهم،
ولن تطالب بتقييد حريتهم والضغط عليهم، وحجزهم في غيتوات مغلقةٍ، يخضعون فيها
للرقابة والمتابعة، والمحاسبة والسؤال، ولا يسمح بزيارتهم ولا يؤذن لهم بالخروج
بأنفسهم.
اغتاظ العدو
الإسرائيلي من إقامة الأسرى المحررين في فندقٍ في القاهرة، ووصف إقامتهم فيه بأنها
مرفهة، وأنها سبع نجوم، فطالب بإخراجهم منه، ومنع استضافتهم فيه وفي غيره من
الفنادق المصرية، وإخضاعهم للرقابة الأمنية المشددة، وكان قد مارس ضغوطه على
الكثير من دول العالم للامتناع عن استضافتهم، وعدم السماح لهم بالإقامة في بلادهم،
ومن قبل منع عائلاتهم وأسرهم في الضفة الغربية من السفر لمصر ولقاء أبنائهم في
القاهرة، وهم الذين لم يروهم منذ سنواتٍ طويلة، حيث لا يسمح العدو بزيارتهم، وكأن
الذي يصدر الأوامر هو نفسه المتطرف الصهيوني إيتمار بن غفير، الذي جعل همه الأول
في وزارة الأمن القومي التضييق على الأسرى والمعتقلين، وسحب الامتيازات منهم،
وحرمانهم من أبسط حقوقهم، ومنعهم من الفورة والتعرض للشمس، ومصادرة كتبهم وأوراقهم
وأقلامهم، وغير ذلك من الإجراءات التي تشدد فيها ونفذها.
لعل هؤلاء
الأسرى الأحرار، الأبطال الشجعان، عمالقة الصبر ورجال الأمة الأفذاذ، الذين قضوا
عشرات السنوات من زهرة أعمارهم في السجون والمعتقلات، وضحوا بحياتهم في سبيل
قضيتهم ومن أجل شعبهم، وتخلوا عن أطفالهم ونسائهم، وعائلاتهم وأسرهم، وتركوا
الدنيا ومتع الحياة خلف ظهورهم، ورفعوا بصمودهم وثباتهم وشموخهم وكبريائهم رأس
الأمة عالياً، لعلهم يستحقون منا كل وفاءٍ وتقديرٍ، وعرفانٍ وإكرامٍ، وأن نرفعهم
على أكفنا، ونتسابق في خدمتهم والاحتفاء بهم، وحسن استقبالهم وكريم معاملتهم.
وليعلم العالم
كله أننا أمة حرةً، نكرم أبناءنا ونقدر أسرانا، ولا نقبل بإهانتهم، ولا نعطي العدو
فرصةً للتطاول عليهم، ولا نسكت عمن يسيء إليهم، ولا نحترم من يوصي بالتضييق عليهم،
ولا نسمح لأحدٍ أياً كان بالتدخل في شؤونهم، والاعتراض على أوضاعهم، أو توجيه
النقد لمن يستضيفهم أو يرغب في استقبالهم، فكرامة هؤلاء الأسرى من كرامتنا، وشرفهم
هو شرفنا، وما كانوا أعزاء فإننا أعزاء، وما كانوا مكرمين فإننا كرماء.
يتبع ......
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك