أنتلجنسيا المغرب: الرباط
يكتسب يوم الجمعة مكانة سامية في الوجدان العربي الإسلامي، فهو
اليوم الذي تتنزل فيه السكينة على القلوب، وتجتمع فيه الأمة على ذكر الله، وتتجدد
فيه الروابط الروحية بين الإنسان وخالقه بما حمله الشرع من استدلالات واضحة تؤكد
فضله وعلو شأنه.
يوم الجمعة هو اليوم الذي اختاره الله ليكون عيدًا أسبوعيًا
للمسلمين، وفيه قال النبي إن أفضل الأيام يوم الجمعة، ففيه خُلق آدم وفيه أُدخل
الجنة وفيه أُخرج منها، وهو يوم يحمل رمزية البداية وتجلّي الرحمة الإلهية على
الخليقة.
ارتبط يوم الجمعة بخاصية الاجتماع التي تعيد صياغة الروابط الإنسانية،
ففيه يستقيم المسلمون صفًا واحدًا بلا تمييز، وتذوب الفوارق ويتنفس المجتمع روح
الوحدة التي أرادها الشرع، وتفيض خطبة الجمعة بما يصلح القلوب ويقوم السلوك.
جعل الله في يوم الجمعة ساعة استجابة لا يرد فيها دعاء عبد دعاه
بإخلاص، وقد تناقل العلماء أقوالًا كثيرة عن هذه الساعة، وكلها تؤكد أن الجمعة
منصة للرجاء وفرصة لا تتكرر لفتح أبواب السماء.
ومن دلائل عظمة الجمعة أن القرآن أفرد لها سورة تحمل اسمها،
وفيها الأمر الإلهي الواضح بالسعي إلى ذكر الله وترك كل انشغال مادي عند النداء
للصلاة، تأكيدًا أن الاتصال بالله مقدّم على كل ما سواه.
يوم الجمعة يشكّل نقطة التقاء بين الدين والدنيا، فبعد انقضاء
الصلاة يعود الإنسان إلى معاشه، وهذا التوازن يعكس روح الإسلام الذي يجمع بين
الروح والعمل دون إفراط أو تفريط.
ويستحب للمسلم في هذا اليوم كثرة الصلاة على النبي، وقد ورد أن
من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فهي طهارة للروح وجسر يربط
المؤمن بالرحمة المحمدية.
ومن فضائله قراءة سورة الكهف، لما تحمله من نور يمتد من الجمعة
إلى الجمعة، نور يعصم صاحبه من الفتن ويقوي بصيرته في قلب عالم مضطرب.
كما شُرع فيه غسل الجمعة تهيئة للقاء الجماعي في المسجد، وهو
طقس روحي وصحي يحمل دلالة على الطهارة الظاهرة والباطنة، ويعزز صورة المجتمع
المتآلف المتزين لعبادة ربه.
وتتأكد فيه السنن مثل التبكير إلى المسجد، والمشي إليه بسكينة،
والإنصات للخطبة، وكلها ممارسات تعيد تشكيل انضباط النفس وتدريبها على الخضوع لله
والإنصات لكلمة الحق.
ويحمل يوم الجمعة فضل مضاعفة الحسنات، فكل خطوة يخطوها المؤمن
إلى المسجد تُكتب له حسنة وترفع عنه سيئة، ما يجعل الطريق إلى الجمعة رحلة بركة
قبل أن تكون مجرد عبادة.
وفيه خُصّ المسلمون بخطبة هي بمثابة مدرسة أسبوعية تصحح الأخلاق
وتبني الوعي وتكشف ما يحتاجه المجتمع من قيم وتوجيهات، ولذلك اعتنى العلماء
بمقاصدها وعمق أثرها.
ويوم الجمعة باب لتجديد التوبة، إذ يشعر الإنسان بالقرب من الله
فيستحيي من معاصيه ويقبل على الدعاء والاستغفار، فتتهذب النفس وتلين الجوارح لما
يحب الله.
وحضّ الشرع على الإكثار من الدعاء فيه، فهو اليوم الذي تتنزل
فيه البركات وتتفتح فيه أبواب المغفرة، ما يجعل الدعاء فيه زادًا للمؤمن وقوة
لقلبه.
وللجمعة أثر اجتماعي بارز في تماسك المجتمع، فالتقاء المصلين
أسبوعيًا يخلق جسورًا من التعارف والتواصل ويخفّف من حدة الانعزال، ويحيي روح
الجماعة التي هي أساس قوة الأمة.
ومن جمال هذا اليوم أن فيه ما يذكّر الإنسان بآيات الكون،
فالجمعة تجمع بين نور القرآن والخطبة والدعاء وصورة الصفوف المنتظمة، وكلها مشاهد
توقظ الحس الروحي العميق.
ولأن الجمعة يوم فضل، فقد رُوي أن الموت فيه أو في ليلته علامة
خير لمن أكرمه الله بذلك، لما تحمله الروايات من بشائر تتحدث عن عصمة الميت من
فتنة القبر.
ويستحب فيه الإكثار من الأعمال الصالحة، كصلة الرحم والصدقة
والذكر، فهي أعمال تتضاعف أنوارها في هذا اليوم المبارك فتنعكس على الإنسان
والمجتمع.
ويحمل اليوم في عمقه معنى التجديد، فكل جمعة بداية جديدة وفرصة
لمسح غبار الأسبوع وتصفية القلب من أثقال الحياة، كما أنه مناسبة لتقييم الذات
ومعاودة السير في طريق الطاعة.
ويبقى يوم الجمعة تاج
الأيام، يومًا يحمل نور السماء إلى الأرض ويعيد صياغة علاقة الإنسان بربه كل
أسبوع، ليظل القلب حيًا والروح يقظة، وتظل الأمة متشبثة بصلابة قيمها ومقومات
وحدتها.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك