أنتلجنسيا المغرب: الرباط
تتجلى خصوصية يوم الجمعة في المغرب
كطقس روحي واجتماعي يختزل ذاكرة أجيال متعاقبة نسجت علاقتها العميقة بالهوية من
خلال لمة العائلة حول طبق الكسكس الذي يمثل رمزًا للتواصل بين الجد والجدة
والأبناء والأحفاد في مشهد يعيد للبيت المغربي دفئه القديم ويمنحه نبضًا لا ينطفئ
مهما تغيرت الأزمنة وتبدلت السلوكيات
وفي كل بيت مغربي تنبعث صباحًا روائح
البخار المتصاعد من القدور لتعلن أن الجمعة ليست يومًا عابرًا بل محطة أسبوعية
تتجدد فيها الروابط وتستعاد فيها الحكايات ويشعر فيها المرء بأنه ما زال جزءًا من
نسيج أسري متماسك رغم ضغوط الحياة الحديثة
وتبدأ تفاصيل هذا اليوم من الاستعداد
المبكر حيث يحرص الجميع على الاغتسال وارتداء أنظف الثياب والتهيؤ لاستقبال الجمعة
بصفاء روحي يعكس احترام المغاربة لهذا اليوم الذي يجمع بين العبادة واللمة وبين
الشعائر الدينية والموروث الاجتماعي الذي ظل صامدًا عبر القرون
وفي المساجد يمتلئ الصف الأول بكهول
وشباب يشاركون في أجواء الخشوع والطمأنينة التي تمنح الجمعة مكانتها الخاصة في
الذاكرة الدينية للمغاربة حيث يخرج المصلون بعد الخطبة وهم يحملون شعورًا متجددًا
بالسكينة والاستعداد لاحتضان لحظات العائلة المنتظرة
ويتخذ فعل الصدقة مكانة راسخة في طقوس
الجمعة إذ يختار الكثيرون إدخال الفرحة على قلوب المحتاجين عبر توزيع الخيرات
فتصبح أبواب المساجد وواجهات الأزقة ساحات رحمة يتنافس فيها الناس على مساعدة
الفقراء في مشهد يترجم عمق التضامن المتأصل في المجتمع المغربي
ومع اقتراب منتصف النهار تتحول
المطابخ إلى خلية نحل يسهم فيها الجميع كل حسب قدرته فإعداد الكسكس ليس مجرد طبخ
بل فعل جماعي يستدعي مشاركة نساء من مختلف الأعمار يجتمعن حول القدور ويعجنّ
ويبخّرن ويحوّلن الحبوب والخضار واللحم إلى طبق يختصر ذاكرة وطن
ويجلس أفراد العائلة حول المائدة في
لحظة سكون تسبق اللمة الكبرى حيث يبدأ الصغار والكبار في تبادل النكات والتعليقات
التي تجعل من الوجبة أكثر من مجرد أكل بل مسرحًا تلتقي فيه القلوب وتتجدد فيه
الروابط وتُروى فيه حكايات الأسبوع وأحواله
ويحمل الكسكس في المخيال الجماعي
رمزًا لوحدة الأسرة إذ يجمع الكل حول صحن واحد في إشارة عميقة إلى أن الاختلاف لا
يفسد الود وأن اللمة الأسبوعية قادرة على إذابة أي توتر وإعادة اللحمة التي تهددها
صراعات الحياة اليومية
ومع انتهاء الوجبة تتحول الجلسة إلى
مساحة للدعاء وتبادل الأمنيات ثم تستمر ساعات بعد الزوال في حديث هادئ أو زيارة
الأقارب والجيران فيما يبقى صدى الجمعة حاضرًا في ملامح الراحة على وجوه الجميع
وكأن اللمة نفسها صارت علاجًا نفسيًا دون وصفة
وهكذا يصبح يوم الجمعة أكثر من عادة
أسبوعية إنه موعد متجذر يربط الماضي بالحاضر ويجسد روح العائلة المغربية التي تعرف
كيف تحافظ على جذورها عبر طقوس بسيطة لكنها عميقة المعنى تجعل من طبق الكسكس ومن
دفء الزيارة ومن نفَس الصدقة ركيزة لاستمرار هذا الإرث عبر الأجيال
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك