
أنتلجنسيا المغرب: الرباط
في كل أسبوع، يحل يوم الجمعة ضيفًا
مميزًا على قلوب المسلمين، حاملًا معه لحظة تجديد، واستعداد لاستقبال الخير
والبركة، لا فقط عبر خطبة الجمعة وصلاتها، بل من خلال سنن عظيمة توارثتها الأمة،
وجعلت من هذا اليوم مظهرًا حيًا من مظاهر الطهارة والنقاء والتلاحم الاجتماعي.
يوم الجمعة ليس مجرد يوم عطلة أو
عبادة روتينية، بل هو يوم له أسرار ربانية وفضائل لا تُحصى، وعلى رأسها الاغتسال،
الذي يعد من شعائر التطهر الظاهري والباطني، ومن آداب الحضور إلى المسجد، احترامًا
لمكانة الجماعة وقدسية اللقاء الأسبوعي بالمصلين.
الاغتسال يوم الجمعة ليس عادة صحية
فحسب، بل هو عبادة وسنة مؤكدة، يغتسل فيها المسلم ليقبل على بيت الله في أنظف صورة
وأطيب رائحة، مطهرًا بدنه من أدران الأسبوع، كما يطهر قلبه من شوائب الغفلة.
كم هو رائع أن ترى المسلمين يتسابقون
إلى الاغتسال والتعطر ولبس أنقى الثياب، في لوحة جماعية ترمز إلى وحدة الجماعة
وسمو الأخلاق، وكأن الطهارة الظاهرة تشهد على طهارة القلوب ونقاء السرائر.
وقد ورد في الحديث النبوي الصحيح:
"غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، والسواك، وأن يمس من الطيب ما قدر
عليه"، في تأكيد على أن هذا اليوم محطة تجديد روحي وجسدي، لا مجرد طقس تعبدي
عابر.
في لحظة دخول المسجد، يبدأ مشهد آخر
لا يقل طهرًا عن الاغتسال، حيث تمتد صفوف المسلمين جنبًا إلى جنب، لا فرق بين غني
وفقير، ولا بين صغير وكبير، كلهم سواسية في حضرة ربهم، يبتغون رحمته، ويتجنبون
الغفلة عن ذكره.
الصلاة جماعة في يوم الجمعة، ليست
مجرد التقاء بالأصدقاء أو تلبية للواجب، بل هي تذكرة أسبوعية بأن الجماعة رحمة،
وأن الأمة لا تُبنى إلا بتراص صفوفها، كما تتراص الأجساد في السجود.
الاغتسال، النظافة، التعطر، ارتداء
أحسن الثياب، كلها ليست مجرد مظاهر خارجية، بل إشارات على أن الإسلام يهتم بجمال
الظاهر بقدر ما يهتم بنقاء الباطن، وهو الدين الذي جمع بين الطهارة والعبادة في
كمال قلّ نظيره.
ما أبهى تلك اللحظات التي يجتمع فيها
الناس على الطهر والذكر، يتوجهون إلى بيوت الله، فتغمرهم السكينة وتحيطهم
الملائكة، في عالم من الطمأنينة لا يُشترى، بل يُمنح لمن أخلص النية وأحسن الطهارة.
ويظل صوت الإمام يخترق القلوب في خطبة
الجمعة، موجّهًا ومربّيًا ومذكّرًا، يدعو إلى الخير، وينهى عن المنكر، ويشحذ الهمم
من أجل صلاح النفس والمجتمع، في تذكير أسبوعي لا مثيل له.
ومن أعظم مقاصد الجمعة أنها تعيد
للمسلم توازنه، فتُخرجه من صخب الدنيا إلى صفاء العبادة، وتُعيد له التذكير بمعنى
الجماعة، والارتباط الوثيق بإخوانه في الدين، فلا عزلة في الإسلام، ولا عبادة
فردية تعلو على الجماعة.
ولعل من أسرار هذا اليوم أنه محطة
للتوبة، وموعد لتفريغ الشحنات السلبية، ومناسبة لتجديد العهد مع الله، عبر خطوات تبدأ
من غسل الجسد وتنتهي بانشراح الصدر.
إن المسلم الحقيقي، لا يمر عليه يوم
الجمعة كما تمر باقي الأيام، بل يتهيأ له منذ ليلته، يتفقد ثيابه، ويحضر نفقته،
ويجهز نفسه ليكون من الأوائل إلى المسجد، رغبة في الأجر وحرصًا على الخير.
الاغتسال يوم الجمعة، ليس رفاهية أو
عادة صحية فقط، بل هو تميّز حضاري وروحي، يُعبّر عن عناية الإسلام بالنظافة كقيمة،
وبالجمال كعبادة، وبالطهارة كهوية يومية.
فأي دين هذا الذي يجعل من طهارتك
عبادة؟ وأي شريعة هذه التي تربط بين العطر والثواب؟ إنه الإسلام الذي يعلّمك كيف
تكون جميلًا في روحك، نظيفًا في بدنك، حسنًا في جماعتك.
من لا يحرص على صلاة الجمعة، ولا يرى
في الاغتسال لها طقسًا مقدسًا، إنما يحرم نفسه من كنز رباني يتجدد كل أسبوع، ويغفل
عن لحظة من أعظم لحظات الصفاء والسكينة.
إنه لأمر عظيم أن تربط الشريعة بين
الجمال والنقاء والاجتماع في وقت واحد، فتجعل من الجمعة يومًا للطهر والتآخي
والرجوع إلى الله، وتفجير طاقات الخير في النفس والمجتمع.
جمعة المسلمين ليست يومًا كغيره، إنها
موعد مع الذات، ومناسبة للارتقاء، ومشهد تتجسد فيه روح الإسلام في أبهى صورها، حيث
الطهر والصفاء، والتراص في العبادة، والتآزر في الذكر.
فلنحرص على هذه السنة النبوية
العظيمة، ونعلّم أبناءنا أن الطهارة لا تقتصر على الوضوء، بل تتعداها إلى الغسل،
والتعطر، ولبس أحسن الثياب، والتبكير إلى بيت الله، فهذا هو سبيل النور في الدنيا
والآخرة.
ولتبقَ الجمعة، في ضمير كل مسلم،
عنوانًا للنقاء والتجديد، ويومًا تتجدد فيه الطهارة والجماعة، لنستقبل به الأسبوع
المقبل ونحن أقرب إلى الله، وأطهر في الجسد والروح.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك