أنتلجنسيا المغرب:الرباط
في زمن
طغت فيه الماديات، وتحوّلت فيه القلوب إلى جدران صمّاء، ما أحوجنا لتذكّر أن أعظم
الأعمال ليست تلك التي تُدوَّن في الصحف أو تُخلَّد في التماثيل، بل تلك التي تمرّ
بهدوء، تُزرع في النفوس، وتُثمر رحمةً في قلوب الناس.
من قال إن الخير لا يُقاس إلا بحجمه؟ من قال إن العطاء لا يكون إلا إذا كان مصحوبًا بالذهب والفضة؟
أحيانًا، تكون نظرة حنان، كلمة طيبة، لمسة على
الكتف، أقوى من كل صناديق المعونة.
جبر الخواطر ليس شعارًا إنشائيًا، بل عبادة عظيمة، لا تحتاج إلى مال
أو جاه، بل إلى قلب حيّ يشعر بالآخرين. فأن تجبر خاطر فقير بكلمة، أو تبتسم في وجه
مهموم، هو من صميم الأخلاق التي علّمنا إياها الدين والضمير.
كم من مكسور الخاطر مرّ بنا دون أن نلاحظ؟
وكم من فقير في شعوره، لا
في جيبه، احتاج فقط إلى من يُصغي له لحظة، أو من يقول له: "أنا معك".
هناك من يظن أن عمل الخير يتطلّب مؤسسات ضخمة وأموالاً طائلة، لكن
الحقيقة أن أفضل الصدقات هي الكلمة الطيبة. والرسول الكريم لم يقل عبثًا:
"الكلمة الطيبة صدقة"، لأنها تصل القلب دون استئذان، وتُحيي فيه ما مات.
كثيرة هي الجراح التي لا تُداوى بالأدوية، بل بالكلام الطيب. وكثيرة
هي الأرواح التي نجت من الانكسار لأن أحدهم قال في لحظة ضعف: "أنت قوي، لا
تستسلم".
نحن في عالم متعب، يلهث فيه الجميع خلف مصالحهم، لكن لا تزال هناك
بقعة نقية في كل إنسان، تلك التي تشعر بوجع الآخر وتنتصر له ولو بكلمة. لا تستهين
بها، فقد تكون سببًا في إنقاذ حياة.
من أسوأ ما نعيشه اليوم أن نربط القيمة بالثمن. الكلمة الطيبة لا
تُباع في الأسواق، لكنها تشتري لك مكانة في قلوب لا تنساها أبدًا. وجبر الخواطر لا
يُدرَّس في الجامعات، لكنه أعلى درجات الإنسانية.
حين ترى عجوزًا في الطريق وتحمل عنه حملاً ثقيلاً، أو تفسح مكانك في
طابور طويل لأرملة أنهكها الانتظار، أنت تمارس أنبل أشكال الخير. لا تنتظر الشكر،
فالثواب في السماء، والدعوات لا تُخطئ طريقها.
المفارقة أن كثيرًا ممن يملكون المال يبخلون بالكلمة، بينما البسطاء
يعطون ما لا يُقاس. سائق الحافلة الذي يبتسم للركاب، والعامل الذي يحيّي الناس
بود، هؤلاء هم ملح الأرض وميزان الرحمة.
جبر الخواطر لا يحتاج سلطة ولا أضواء، بل يحتاج ضميرًا يستيقظ كل صباح
ليسأل: من الذي يحتاج إليّ اليوم؟ وربما يكون الجواب قريبًا جدًا: إنسان صامت، يمر
بجانبك، يبحث عن كلمة واحدة تشجّعه.
لا تدع يومك يمر دون أن تترك أثرًا. لا تغادر مكانًا دون أن تُعطي
شيئًا من نفسك. اجعل البساطة عنوانك، واللطف سلاحك، وابتسامتك جواز مرورك إلى
القلوب.
المجتمع لا يحتاج إلى مزيد من الخطباء، بل إلى مزيد من الرفق والحنان.
إلى من يضع يده على كتف الموجوع ويقول: "أنا أشعر بك"، إلى من يرى الفقر
في العيون لا في الجيوب.
في النهاية، الخير ليس في العظمة، بل في الصدق. وأعظم الناس مكانةً هم
أولئك الذين يجبرون الخواطر في صمت، ويمضون، بينما تبقى بصماتهم محفورة في أرواحنا
إلى الأبد.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك