أنتلجنسيا المغرب:الرباط
صلاة الجمعة، هذا الركن الأسبوعي
الجامع للمسلمين، ليست مجرد شعيرة تُؤدى، بل محطة إيمانية متجددة يفيض فيها الأجر
وتُجدد فيها الروح صلتها بالخالق، وتحضر فيها الجماعة في مقامها السامي. وقد عُدّ
حضورها من علامات الإيمان، لما فيه من تعظيم للجمعة، واستجابة للنداء الرباني في
كتاب الله. ومع ذلك، فإن الإسلام، بشريعته المتزنة، لا يُغلق أبواب الرحمة في وجه
من حال المرض أو العذر بينه وبين الصفوف.
في جوامع المسلمين، تتجلّى روح
الجماعة، ويعلو صوت الخطبة في قلوب الحاضرين، لكن ثمة من يظل في بيته، لا تهاونًا،
بل ألمًا أو عذرًا قاهرًا يمنعه من ارتياد المسجد، وهو يتساءل: هل يُكتب لي الأجر
كما لو كنت معهم؟ الجواب تُسعف فيه النصوص، وتُثلج به القلوب، نعم، فالله لا يضيع
أجر من أحسن نية، وإن غاب عن الجمع بجسده، كان حاضراً بنيته.
النية في الإسلام لها مقام عظيم، وقد
بُنيت عليها الأحكام. ومن كان معتادًا على حضور الجمعة، لكن أقعده المرض أو ظرف
قاهر، فإن أجره لا يضيع. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو
سافر، كتب الله له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا"، وهذا الحديث ينسحب على كل
عبادة تعذر على المؤمن إتيانها لعذر معتبر.
كم من مريض تتوق نفسه لصلاة الجمعة في
المسجد، وكم من عاجز يرفع بصره إلى السماء حين يسمع الأذان وهو على فراشه، يتألم
جسده، لكن قلبه حاضر، وروحه متلهفة، وهؤلاء عند الله عظماء، لأنهم ما تهاونوا، وما
تكاسلوا، ولكن أُعذروا، فأكرمهم الله بنيتهم الصادقة.
الجمعة ليست فقط ركعتان وخطبة، إنها
تجسيد لوحدة المسلمين، وتأكيد على تلاحمهم، وهي تجديد للعهد مع الله. ومن حُبس
عنها وهو يتمنى حضورها، فقد شهد الجمعة بقلبه، وكان من الذاكرين، وحُشر في زمرة
المصلين، لأن ربنا كريم، لا يظلم مثقال ذرة.
من عاش حياته لا يتخلف عن الجمع،
ويحرص على الصف الأول، ويسبق المؤذن، ثم اضطرته ظروف المرض أو الكِبَر، فحُرم من
المسجد، فإن الله الذي يعلم السر وأخفى، لا يبخس حقه، بل يضاعف له الأجر، وقد يصيب
من الثواب أكثر ممن حضر بجسده وغفل قلبه.
الجمعة عبادة ترتبط بالجماعة، نعم،
لكن جماعة القلب قد تعلو أحيانًا على جماعة الجسد. فالمؤمن الذي يُحاصر بالألم في
سريره، يستقبل القبلة، ويستحضر الخشوع، ويتابع الخطبة عبر الإذاعة أو الإنترنت، هو
في حال عبادة لا تقل شأنًا، وقد تَعلو، إذا صدقت النية واستقامت الروح.
المرض من الأعذار المعتبرة في
الإسلام، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فلا يحزن المؤمن إذا عجز عن الجمعة. بل
عليه أن يحمد الله على ما تيسر له من وسائل الذكر، ويستغفر، ويكثر من الصلاة على
النبي، ويُظهر لله شوقه للجماعة، فإن ذلك من أعظم القربات.
من رحمة الإسلام أنه لا يغلق الأبواب،
ولا يحاسب بالعجز، بل يُثيب على النية. وهذا يفتح أبواب الأمل لآلاف المرضى
والعجزة في المستشفيات والمنازل، ممن تفيض أعينهم من الحزن حين تغيب عنهم الجمعة،
لكن الله يُحصي لهم دموعهم، ويكتب لهم الأجور كاملة غير منقوصة.
وقد ورد عن السلف أنهم كانوا يقولون:
"إن النية تبلغ بصاحبها ما لا يبلغه العمل"، وفي الحديث: "نية
المؤمن خير من عمله"، وفي ذلك عزاء لكل من غابت عنه الجمعات وهو يتمنى
حضورها، ويرجو الله قبولها.
ينبغي أن نرسّخ هذا الفهم في
مجتمعاتنا، وأن نُذَكِّر المرضى بأن الله لا ينسى عباده، ولا يضيع نيتهم، بل هو
أرحم بهم من أنفسهم. فلرب مريض كتب له من الأجور ما لم يُكتب لصحيح بسبب صدق النية
وصعوبة البلاء.
وفي ذات السياق، فإن مراعاة المرضى
وتيسير العبادات عليهم، جزء من الرحمة الإسلامية، فيمكن نقل خطب الجمعة إليهم عبر
الأجهزة، أو زيارتهم بعد الصلاة لإيصال روح الجمعة إليهم، فإن في ذلك أجرًا
مضاعفًا ومواساة عظيمة.
كما أن من يُبتلى بالمرض يوم الجمعة،
فله أن يُكثر من الدعاء، ويغتنم ساعة الاستجابة، ويُردد الصلاة على النبي، ويقرأ
سورة الكهف، وكل ذلك من أعمال الجمعة التي لا تستلزم وجودًا في المسجد، ولكنها
تُحصّل الأجر وترفع الدرجات.
وعلى المحيطين بالمرضى من الأهل
والأصدقاء أن يُذكّروهم دومًا بأنهم في عبادة، وأن يُخففوا عنهم شعور الذنب،
ويُحفّزوهم على النية الصادقة والدعاء، فإن الكلمة الطيبة للمريض توازي في أجرها
إقامة عبادة، بل قد تكون بابًا من أبواب الجنة.
في النهاية، من عرف الله حقًا، علم أن
الأجر لا يضيع، وأن كل خفقة قلب، وكل نية صادقة، وكل شوق للجماعة، تُكتَب في ميزان
العبد. فالجمعة عبادة عظيمة، ومن فاته حضورها بعذر، فليعلم أن الله لا يكتب الأجر
بالأقدام فقط، بل بالقلوب أيضًا.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك