أنتلجنسيا المغرب:ياسر اروين
لم يعد المشهد السياسي المغربي في نهاية 2025 يحتاج إلى كثير من التحليل ليظهر حجم التشوهات التي ضربته في العمق.
فقد تحولت الساحة الحزبية إلى ما يشبه مسرحًا ضخمًا تتحرك فيه “الكراكيز” بخيوط غير مرئية، بينما الجمهور يدرك جيدًا أن ما يُعرض أمامه ليس عملاً سياسياً حقيقياً، بل إعادة إنتاج مكشوفة لهيمنة لوبيات النفوذ التي تتحكم في مفاصل القرار.
وتراجع السياسة إلى هذا المستوى ليس صدفة، بل نتيجة تراكمات ثقيلة غذّتها اختيارات مدروسة أعادت هندسة الحقل الحزبي بما يخدم مصالح فئات قليلة، تتقاطع فيها الثروة، الاقتصاد، التأثير المؤسساتي، والتحكم في المجال العام.
فالآلة السياسية التي كان يُفترض أن تحمل مطالب المجتمع وتترجمها إلى برامج، تحولت إلى واجهة لشرعنة قرارات تُصنع خارج البرلمان وخارج الأحزاب، في غرف مغلقة تُحدد مستقبل البلاد دون مساءلة.
والأحزاب، التي كانت قبل سنوات تمتلك وزنًا انتخابيًا وتنافسًا حقيقيًا، أصبحت اليوم كيانات هجينة بلا روح سياسية، حيث قيادات تُختار بعناية، مرشحون يُدفعون دفعًا إلى الواجهة، تحالفات تُبنى وفق مصالح غير سياسية، وبرامج تُصاغ لملء البلاغات فقط.
لقد تم تجفيف منابع السياسة حتى صار المشهد العام يعجّ بالوجوه التي لا علاقة لها بالعمل الحزبي إلا بقدر ما تؤدي دورًا محددًا في اللعبة.
واللوبيات التي تتحكم في هذا المسرح ليست مجرد كيانات اقتصادية نافذة، بل شبكات متشابكة تستغل كل ما يمكن استغلاله كـ: الإعلام، التمويل، الاستثمار العمومي، العلاقات المؤسساتية، والقدرة على تشكيل الرأي العام.
ومع مرور السنوات، أصبحت هذه الشبكات تملك القدرة على تعيين من يصعد ومن يسقط، ومن يتكلم ومن يصمت، بل أصبحت تحدد حتى “المعارضة” المطلوبة والمعارضة الممنوعة.
والمظاهر متعددة مثل: برلمان بتمثيلية ضعيفة، أحزاب تُخلق بين ليلة وضحاها ثم تمنح مفاتيح السلطة، ووجوه جديدة تُقدم كبدائل سياسية بينما هي في الواقع امتداد لنفس المنطق المتحكم.
وأمام هذا الوضع، تراجعت الثقة الشعبية إلى أدنى مستوياتها، ولم يعد المواطن يرى في السياسة وسيلة للتغيير، بل لعبة مغلقة لا مكان فيها لمن يملك رأيًا مستقلاً.
والنتيجة هي حقل سياسي منزوع الفاعلية، لا ينتج مبادرات حقيقية، ولا يقاوم تغوّل المصالح، ولا يشكل قوة ضغط لصالح المواطنين.
بل أصبح في كثير من الأحيان مجرد جهاز تبرير يمرّر القرارات الكبرى دون نقاش، ويعيد إنتاج نفس المعادلات التي تُبقي على التحكم قائمًا.
فما يحدث اليوم هو أخطر من مجرد “ضعف حزبي”. إنه إعادة تشكيل كامل لدور السياسة في المغرب، بحيث تُفرّغ من محتواها وتُستبدل بإدارة تقنية تتحكم فيها قوى غير منتخبة، بينما تتحول الأحزاب إلى ديكور ديمقراطي يملأ الواجهة ولا يملك من أمره شيئًا.
إن إنقاذ السياسة لا يمر عبر تغيير الوجوه فقط، بل عبر استرجاع استقلالية القرار الحزبي، تحرير الإعلام من قبضة المصالح، إعادة الثقة للمواطن، وفتح المجال أمام قيادات جديدة قادرة على ممارسة السياسة بمعناها الحقيقي: خدمة الصالح العام، لا خدمة اللوبيات.
ختاما، فالحقل السياسي المغربي اليوم في مفترق طرق. فإما أن يستعيد دوره كفضاء للتنافس الحر والفكرة العمومية، أو يستمر مسرحًا للكراكيز تُحرّكه خيوط غير مرئية، بينما يُترك مستقبل البلاد في يد من يملكون النفوذ بدل من يملكون الشرعية.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك