المركزيات النقابية في المغرب والهدنة الغامضة في زمن الغضب الاجتماعي

المركزيات النقابية في المغرب والهدنة الغامضة في زمن الغضب الاجتماعي
تقارير / الخميس 13 نونبر 2025 / لا توجد تعليقات: تهنئة بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء المظفرة

أنتلجنسيا المغرب:ياسر اروين

منذ وصول حكومة عزيز أخنوش إلى السلطة سنة 2021، دخلت المركزيات النقابية الكبرى في المغرب في ما يشبه "الهدنة غير المعلنة" مع الجهاز التنفيذي، في وقت يعرف فيه الوضع الاجتماعي للمغاربة واحدة من أكثر مراحله هشاشة خلال العقدين الأخيرين. هذه الهدنة، التي لا تفسير لها من زاوية المنطق الاجتماعي، تطرح أكثر من سؤال حول طبيعة العلاقة الجديدة بين النقابات والدولة، وحول ما إذا كانت الحركة النقابية فقدت بالفعل دورها التاريخي كصوت للفئات المقهورة، أم أنها اختارت الاصطفاف في صف السلطة مقابل امتيازات تنظيمية وسياسية.

تاريخياً، لعبت المركزيات النقابية في المغرب دوراً محورياً في الدفاع عن العدالة الاجتماعية والكرامة العمالية، وكانت لسنوات طويلة تشكل توازناً ضرورياً في مواجهة قرارات الحكومات المتعاقبة. إلا أن السنوات الأخيرة أظهرت تحوّلاً جذرياً في سلوكها السياسي، حيث اختارت نهج الصمت والتواطؤ الضمني مع الحكومة، رغم ارتفاع الأسعار، وتدهور القدرة الشرائية، وتجميد الحوار الاجتماعي الحقيقي. بل إن ما يسمى بـ"الحوار الاجتماعي الثلاثي" أصبح مجرد تمرين بروتوكولي تُعلن فيه الحكومة وعوداً محدودة، بينما تكتفي النقابات بالمصادقة الصامتة على اختيارات اقتصادية لا تحمي الطبقة العاملة.

تُبرر بعض القيادات النقابية هذا الموقف بما تسميه "الواقعية السياسية" و"المصلحة الوطنية"، في إشارة إلى ضرورة الحفاظ على الاستقرار وتجنب المواجهة الاجتماعية في سياق إقليمي ودولي متقلب. غير أن هذه المبررات تبدو، في نظر الشارع، أقرب إلى التبرير منها إلى التحليل، لأن الواقع المعيشي للمغاربة أصبح لا يُطاق. فأسعار المواد الأساسية ارتفعت بشكل مهول، وأجور الموظفين والعمال ظلت جامدة، بينما توسعت الهوة بين الطبقات، وازدادت مؤشرات الفقر والهشاشة في المدن والقرى على السواء.

إن الغريب في هذه المرحلة أن النقابات التي كانت تتصدر الاحتجاجات قبل سنوات، أصبحت اليوم غائبة عن الميدان، تكتفي بإصدار بيانات محتشمة أو بلاغات خجولة كلما اشتد الغضب الشعبي. وكأنها اختارت التحول إلى "وسطاء اجتماعيين" بدلاً من أن تكون قوى ضغط مستقلة. هذا التحول لا يمكن فصله عن التغييرات العميقة التي عرفها المشهد النقابي نفسه، حيث أصبحت بعض القيادات النقابية جزءاً من النخبة السياسية والبرلمانية، ما أفقدها استقلاليتها وقدرتها على المواجهة.

من جهة أخرى، يبدو أن الحكومة استفادت من هذا الانكماش النقابي لتنفذ سياسات اجتماعية واقتصادية دون كلفة سياسية تُذكر. فغياب صوت النقابات في الشارع سمح بتمرير إصلاحات تمس التقاعد والتعليم والدعم الاجتماعي دون مقاومة حقيقية. ومع كل أزمة جديدة، يزداد الإحساس العام بأن النقابات لم تعد تمثل الشغيلة بقدر ما تمثل نفسها، وأنها فقدت ثقة قواعدها التي تراها اليوم أقرب إلى الحكومة منها إلى العمال.

إن هذا الوضع يهدد بتفريغ المشهد الاجتماعي المغربي من أحد أهم أدوات التوازن الديمقراطي. فحين تصمت النقابات، يتعزز الشعور باللاجدوى لدى المواطنين، وتُغلق آخر قنوات التعبير السلمي عن الغضب. وحين يغيب الصوت النقابي، تتحول الاحتجاجات إلى انفجارات فردية أو فوضوية، بلا قيادة ولا رؤية. وهذا بالضبط ما يجعل الهدنة الحالية خطيرة: فهي لا تعني استقراراً حقيقياً، بل هدوءاً هشاً يسبق العاصفة.

إن المركزيات النقابية في المغرب اليوم مطالبة بإعادة النظر في دورها وموقعها، وبالعودة إلى الشارع الذي أنجبها، قبل أن تتحول نهائياً إلى مجرد ديكور في مشهد سياسي واجتماعي فاقد للحياة. فالتاريخ لا يرحم النقابات التي تصمت حين يتألم الناس، ولا يغفر للقادة الذين يختارون المساومة على حساب الكرامة الاجتماعية.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك