
بقلم : سعيد العيدي/ خريبكة
في غياب البنيات التحتية الثقافية والمعاهد الفنية المتخصصة بمناطق الهامش، برزت بمدينة خريبكة تجربة فنية رائدة كان لها الأثر العميق في تكوين أجيال متعاقبة من الشباب. فقد جسّد ثلة من الفنانين المثقفين، وعلى رأسهم الفنان المخضرم بلعيد أكريديس الذي يجمع بين التشخيص والإخراج والتأليف والتدبير الإداري بلورته وتجربته بالمكتب الشريف للفوسفاط، نموذجًا فريدًا في العطاء التطوعي والعمل الثقافي الميداني، واضعين نصب أعينهم هدفًا أساسيا هو تمكين أبناء المنطقة من ولوج عالم الفن المسرحي والسمعي البصري.
بالنسبة لظروف النشأة والتحديات: حيث
انطلقت هذه المبادرة في سياق يعرف خصاصًا حادًا في المعاهد والفضاءات المؤهلة
للتكوين الفني، باستثناء تواجد دار الشباب اليتيمة لصقل المواهب ويزداد هذا الخصاص
في المدن البعيدة عن المراكز الكبرى. وقد شكّل هذا العائق حافزًا لمجموعة من
الفاعلين الثقافيين الذين اختاروا أن يواجهوا التحديات بموارد محدودة، لكن بإرادة
صلبة وإيمان قوي بدور الفن في بناء الإنسان.
واعتمد المشروع في منهجية عمله على
الإقامات الفنية كصيغة بديلة للتكوين، حيث جرى تنظيم محترفات وورشات مكثفة في
مجالات متعددة، من بينها:
التكوين المسرحي، والتكوين في المهن
السمعية البصرية (التصوير، المونتاج، الصوت، الكتابة السينمائية، التمثيل،
الإخراج، كتابة النصوص، السينوغرافيا). وهذا طبعا بشراكة مع وزارة الثقافة
المغربية قطاع الشباب والثقافة ومديرياتها الإقليمية والمبادرة الوطنية للتنمية
البشرية والمجالس الجماعية لمدينة خريبكة. ناهيك عن تنظيم ورشات للتأطير التقني
والإداري، ساعدت المتكونين على الإلمام بجوانب شاملة من العملية الإبداعية.
وقد أشرف على هذه الأوراش نخبة من
الفنانين والمخرجين والكتاب والتقنيين الذين تطوعوا بوقتهم وجهدهم، إيمانًا برسالة
الفن كرافعة للتنمية الثقافية. نذكر منهم الاساتذة :أحمد زلال، المرحوم أحمد عاشق،
المامون إدريس، محمد الوافي والمرحوم حوري حسين وحميد نجاح، المخرج إدريس شويكة
،والأستاذ مصطفى عبقري، محمد فلاوي، رشيد لعروصي، سعد الله عبد المجيد، الفنانة
حفيظة خويي وغيرهم...
وبعد مسار تجاوز أربعة عقود من العطاء
المستمر، كانت الحصيلة والنتائج إيجابية، حيث تمكن المشروع من تكوين ما يفوق 3000
فرد من مختلف الأعمار والفئات، بعضهم واصل مساره الفني والتحق بفرق مسرحية
وسينمائية، وآخرون أصبحوا بدورهم مؤطرين ومنشطين لورشات، مما خلق دينامية ثقافية
متواصلة بالمدينة وخارجها.
هذا الرصيد البشري يشكل اليوم ذاكرة
حية لتجربة قلّ نظيرها في المغرب، حيث استطاعت أن تبرهن على أن المبادرة الفردية
والجماعية قادرة على تعويض غياب المؤسسات الرسمية، شريطة أن تكون مسنودة بروح
الالتزام ونكران الذات.
أما في ما يخص القيمة الثقافية
للمشروع، فلا يقتصر أثر هذه التجربة على تكوين فنانين وتقنيين فحسب، بل يتعداها
إلى ترسيخ ثقافة فنية وجعلها جزءًا من الهوية المحلية لمدينة خريبكة، التي أصبحت
تُعرف بفضل هذه الدينامية كفضاء يفرز المواهب ويحتضن الإبداع والخلق.
لقد تحولت هذه التجربة إلى مدرسة
موازية خرّجت أجيالًا كاملة، وأسهمت في جعل الفن وسيلة للاندماج الاجتماعي
والتعبير الحر، وفضاءً لمقاومة التهميش الثقافي الذي يطبع غالبية المدن البعيدة عن
المركز.
ومن أجل إيلاء ثقافة الاعتراف مكانتها
الطبيعية، فإن جل فعاليات المجتمع المدني بمدينة خريبكة يمنون النفس ويناشدوا
المسؤولون بالإقليم بأن يهتموا ويكرموا هؤلاء الرواد الذين بصموا تاريخا حافلا
بالأمجاد وتركوا بصمات كتبت بمداد من ذهب على مر السنين في سجل الأعمال الفنية
والإبداعية الملهمة بمدينة خريبكة العاصمة العالمية للفوسفاط، وكذلك بتوفير فضاءات
للسمعي البصري بالمدينة من أجل استفادة الشباب من تجاربهم وخبراتهم وتطوير قدراتهم
ومعارفهم طول السنة، وذلك عبر تنظيم وبرمجة ورشات تكوينية قارة في مجال التكوين
والتأطير الفني. حتى تصبح خريبكة رافعة للتنمية الثقافية للمملكة المغربية
بامتياز.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك