نحو صيغة جديدة للعمل الإسلامي:من التنظيم إلى الأفق الشبكي

نحو صيغة جديدة للعمل الإسلامي:من التنظيم إلى الأفق الشبكي
سياسة / الثلاثاء 30 دجنبر 2025 / لا توجد تعليقات:

أنتلجنسيا:عبد الفتاح الحيداوي

مقدمة

إن دراسة تحولات العمل الإسلامي تقتضي نظرة فاحصة تتجاوز مجرد رصد الأحداث إلى تحليل البنى العميقة التي تحكمت في مساراته. ليس من الإنصاف محاكمة الأجيال السابقة بمعايير زمننا، فقد كان الانتقال من "الإصلاح الفردي" إلى "الحركية التنظيمية" استجابة عبقرية لتحديات سقوط الخلافة ونشوء الدولة القطرية. إلا أن الوفاء لهذا المنهج الاجتهادي يفرض علينا اليوم تجاوز "الصيغة التنظيمية" التي استنفدت أغراضها، نحو آفاق أكثر ملاءمة لتعقيدات العصر الرقمي والشبكي.

أولا: من الإصلاح إلى الحركية.. اختلاف السياق واختلاف الأدوات 

إن التحول المفصلي في مسار العمل الإسلامي، والذي يمكن وصفه بأنه انتقال من المرحلة الإصلاحية إلى المرحلة الحركية التنظيمية، لا يمثل مجرد تغيير في الأسماء أو الرواد، بل يشكل تحولا نموذجيا  عميقا في طبيعة الاستجابة الإسلامية للتحديات الكولونيالية والحداثية. لقد كانت المرحلة الإصلاحية، التي تبلورت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على يد رواد مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، استجابة نخبوية وفكرية بامتياز . كان السياق المهيمن آنذاك هو سياق الضعف البنيوي للدولة العثمانية وبدايات التغلغل الثقافي والسياسي الغربي، حيث كان التحدي ينظر إليه أساسا على أنه تحد حضاري ومعرفي. لذا، انصب التركيز على إصلاح العقيدة وتنقيتها من الشوائب، والتوفيق بين الإسلام والحداثة، ومواجهة الاستعمار عبر الجدل الفكري وإعادة بناء الوعي الإسلامي المستنير . كانت أدوات هذه المرحلة هي المنبر، والمجلة (مثل المنار)، والمدرسة، وكان الهدف هو تخريج نخبة مثقفة قادرة على قيادة عملية تجديد تدريجية من الأعلى إلى الأسفل.

بيد أن هذا النموذج الفكري النخبوي سرعان ما اصطدم بـواقع تاريخي جديد أكثر قسوة وشمولية، وهو ما أدى إلى ظهور المرحلة الحركية التنظيمية ابتداء من عام 1928، مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا، وتزامنها مع جهود مماثلة لأبي الأعلى المودودي في شبه القارة الهندية . كان الحدث الأبرز الذي أعاد تشكيل الوعي الإسلامي هو سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، الذي حول الأزمة من أزمة فكرية إلى أزمة وجودية وسياسية، وأكد على فشل المقاربة الإصلاحية التدريجية في مواجهة الانهيار الشامل . كما تزامن ذلك مع ترسخ الاستعمار المباشر وصعود الدولة القومية الحديثة التي تميزت بمركزية السلطة وشمولية الأيديولوجيات الوافدة (كالقومية والشيوعية).

في هذا السياق الجديد، لم يعد العمل الفردي أو النخبوي كافيا. لقد أدرك الرواد الجدد أن التحدي لم يعد يقتصر على إصلاح الفرد فكريا بل امتد إلى التغيير السياسي والاجتماعي الشامل، وهو ما تطلب أدوات مختلفة تتناسب مع طبيعة الخصم الجديد. هنا، برزت الحركية التنظيمية كـ"ضرورة تاريخية" ومنهج عمل، حيث تحول التركيز من الفكر إلى التنظيم  ومن النخبة إلى الجماهير. لقد وفر التنظيم الهرمي والجماعي، الذي كان يهدف إلى بناء "الجماعة" ككيان متماسك، وظيفة سوسيولوجية حيوية: أولا الحماية للمنتسبين في بيئة سياسية معادية تتسم بالقمع والاستبداد؛ وثانيا القدرة على التعبئة  الجماهيرية لمواجهة شمولية الدولة الحديثة والأيديولوجيات المنافسة . وبهذا، انتقل العمل الإسلامي من كونه مشروعاً فكريا يهدف إلى التجديد الديني، إلى مشروع سياسي اجتماعي يهدف إلى استعادة السلطة وإقامة الدولة الإسلامية، مما يعكس تحولا جذريا في الأهداف والوسائل، مدفوعا بتغير عميق في السياق التاريخي والسياسي الذي واجهته الأمة.

ثانيا: لماذا لم يعد تطوير الصيغة الحركية كافيا؟ 

لم يعد تطوير الصيغة الحركية، في سياق التحولات البنيوية التي يعرفها العالم المعاصر، كافيا لضمان الفاعلية أو الاستمرارية، لأن الإشكال لم يعد تقنيا أو تنظيميا محضا، بل أصبح بنيويا مرتبطا بطبيعة المجتمع ذاته. فنحن نعيش، كما يصف مانويل كاستيلز، في إطار “مجتمع الشبكات”، حيث لم تعد السلطة، ولا المعرفة، ولا القدرة على التأثير تدار عبر هياكل مركزية مغلقة، بل من خلال شبكات مفتوحة تتشكل من عقد مستقلة نسبيا، قادرة على التفاعل السريع، وإعادة التموضع، وتبادل الموارد الرمزية والمعلوماتية دون الحاجة إلى مركز ضابط. وفي هذا السياق، تكشف التنظيمات الحركية التقليدية، مهما طورت من لوائحها أو أعادت هيكلة أجهزتها، عن عجز بنيوي عن مواكبة هذا النمط الجديد من الفعل الجماعي، إذ تظل أسيرة المنطق الهرمي الذي يبطئ عملية اتخاذ القرار، ويجعل الاستجابة للأحداث رهينة بسلاسل طويلة من التفويض والانضباط، في وقت تتطلب فيه البيئة الشبكية مرونة عالية وقدرة فورية على المبادرة.

يضاف إلى ذلك أن التحول العميق في طبيعة تداول المعرفة والمعلومة، في ظل ما يسميه زيجمونت باومان بـ“الحداثة السائلة”، قد قوض بشكل جذري فعالية منطق السرية والانغلاق الذي قامت عليه التنظيمات الحركية تاريخيا. فالمعلومة اليوم لم تعد موردا نادرا يمكن احتكاره، ولا أداة قوة يمكن التحكم في مسارات تسربها، بل أصبحت سيالة، سريعة الانتشار، وقابلة لإعادة الإنتاج خارج أي إطار تنظيمي. وفي هذا السياق، تتحول السرية من الية حماية إلى عبء ثقيل، إذ تسهل الاختراق بدل منعه، وتغذي مناخ الشك داخل التنظيم نفسه، وتضعف الثقة بين القيادة والقاعدة، كما تسهم في إنتاج خطاب مزدوج يفصل بين ما يقال داخليا وما يعلن خارجيا، وهو ما يقوض المصداقية الأخلاقية والرمزية التي تشكل شرطًا أساسيا لأي مشروع تغييري في الفضاء العام المعاصر.

أما الإشكال الأعمق، فيتجلى في ما يمكن وصفه بتضخم الوسيلة على حساب الغاية حيث تتحول التنظيمات مع مرور الزمن  من أدوات لخدمة مشروع فكري أو حضاري إلى غايات قائمة بذاتها،يقدس بقاؤها، وتحصن لوائحها، ويعاد إنتاج خطابها الداخلي باعتباره معيار الشرعية والالتزام. وفي هذه الحالة، تستنزف الطاقات الفكرية والبشرية في إدارة الصراعات التنظيمية، وضبط التوازنات الداخلية، وتأمين الاستمرارية الشكلية، بدل توجيهها نحو الإبداع، والاجتهاد، والتفاعل النقدي مع الواقع. ويؤدي هذا التحول إلى نوع من “تشيؤ التنظيم”، حيث يفقد وظيفته التاريخية كوسيلة للتغيير، ويصبح عائقا أمامه، بل وقد يتحول إلى بنية محافظة تعيد إنتاج الجمود الذي قامت أصلًا لمقاومته.

انطلاقا من هذه المعطيات، يتضح أن المأزق لا يكمن في الحاجة إلى تحسين الصيغة الحركية أو تحديث أدواتها فحسب، بل في ضرورة تجاوز منطق التنظيم المغلق ذاته، لصالح أنماط أكثر انفتاحا ومرونة، قادرة على الاشتغال داخل الفضاء الشبكي، والتفاعل مع تعددية الفاعلين، والرهان على المبادرة الفردية والجماعية خارج القوالب الصارمة. فالتحدي المطروح اليوم ليس كيف نحافظ على التنظيم، بل كيف نُعيد وصل المشروع الفكري والاجتماعي بسياقه التاريخي الجديد، دون أن يتحول التنظيم إلى صنم يعبد أو عبء يكبل إمكانات الفعل والتحول.

ثالثا: التيار الشعبي.. طاقة بلا وعاء 

أفرزت عقود ما اصطلح عليه بـالصحوة كتلة اجتماعية واسعة متعاطفة مع المرجعية الإسلامية حاضرة بقوة في المجال الدعوي ومتفاعلة مع القضايا العامة لكنها بقيت خارج معادلة الفعل التاريخي المؤثر. لم تتحول هذه الكتلة إلى قوة اقتراح أو إنتاج أو ضغط مستقل بل ظلت أقرب إلى طاقة خام غير مصاغة قابلة للتوظيف أكثر من كونها قادرة على المبادرة. وهذا التعثر لا يمكن رده إلى ضعف في النوايا أو فتور في الانتماء بقدر ما يرتبط ببنية تشكل هذا التيار وطبيعة العلاقة التي نسجت معه منذ البداية.

لقد تشكل الوعي العام لهذا التيار في سياق تعبوي أخلاقي ركز على استنهاض العاطفة الدينية وبناء الحس الهوياتي دون أن يواكب ذلك استثمار جاد في التأهيل المعرفي. فغلب الخطاب الوعظي المبسط على حساب التفكير المركب وسادت لغة الثنائيات الأخلاقية الحادة بدل أدوات التحليل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. ومع تعقد الواقع وتداخل دوائره وجد هذا التيار نفسه عاجزا عن قراءة التحولات أو عن ترجمة قيمه العامة إلى مواقف وسياسات واقعية قابلة للتنفيذ. وهكذا تحولت الحماسة في كثير من الأحيان إلى عبء نفسي يولد الإحباط حين تصطدم الشعارات بصلابة الواقع أو إلى اندفاع غير محسوب يسهل توجيهه واستثماره.

في ظل هذا الفراغ التأهيلي، أصبح التيار الشعبي أرضا خصبة للاستقطاب الحاد. فمن جهة، يسهل جذبه إلى خطابات شعبوية تختزل الأزمات في تفسيرات أخلاقية أو مؤامراتية، وتعده بحلول سريعة ومطلقة، ومن جهة أخرى، يدفعه تكرار الإخفاقات وخيبات الأمل إلى الانسحاب السلبي، أو إلى الانكفاء على التدين الفردي بوصفه ملاذا نفسيا لا مشروعا جماعيا. وفي الحالتين، يغيب الفعل الواعي، ويتراجع الحس النقدي، وتستبدل المشاركة المسؤولة إما بالتلقي الانفعالي أو بالعزوف الصامت.

الأخطر من ذلك أن التنظيمات والحركات التي ادعت تمثيل هذا التيار ساهمت، عن قصد أو عن غير قصد، في تكريس هذا الوضع. فقد نظرت إلى هذه الكتلة الواسعة بوصفها خزانا بشريا للتعبئة أو للتجنيد أو للاصطفاف في لحظات الصراع، لا باعتبارها فضاء اجتماعيا مستقلا ينبغي تمكينه وتحريره. لم ينظر إلى الفرد داخل هذا التيار كمشروع فاعل قادر على التفكير والإبداع والمساءلة، بل كرقم في معادلة تنظيمية، أو كأداة دعم عند الحاجة. وبهذا تم تعطيل إمكانات هائلة كان يمكن أن تتحول إلى مبادرات مدنية، أو مشاريع فكرية، أو أشكال جديدة من الفعل الاجتماعي غير المؤدلج.

إن هذه العلاقة التبعية أفرغت التيار الشعبي من فرص نضجه الطبيعي، وجعلته معلقا بين ولاء عاطفي لايكافأ، وتوجيه فوقي لا يناقش. ومع تآكل التنظيمات نفسها، أو دخولها في أزمات عميقة، وجد هذا التيار نفسه مكشوفا، بلا أدوات ذاتية، وبلا أفق واضح، وبلا قدرة على إعادة تعريف دوره خارج منطق الاصطفاف. وهكذا استمرت المفارقة: كتلة عددية ضخمة، وحضور اجتماعي ملموس، لكن دون وزن نوعي في صناعة المعنى أو التأثير في مسار التحولات.

إن مأزق التيار الشعبي ليس في نقص القيم أو ضعف الإيمان، بل في غياب الوعاء القادر على تحويل الطاقة إلى فعل، والعاطفة إلى وعي، والانتماء إلى مسؤولية تاريخية. وما لم ييعاد التفكير في هذا التيار باعتباره فاعلا مستقلا، يستثمر في تأهيله لا في استهلاكه، وفي تمكينه لا في توجيهه، فسيظل يدور في الحلقة نفسها: حاضرا في المشهد، غائبا عن التأثير، وقابلا دائما لأن يكون موضوعا للفعل لا ذاتا له.

رابعا: ملامح الصيغة الجديدة للعمل الإسلامي 

تشخيص أزمة النموذج التنظيمي التقليدي

. لقد أظهرت التجربة التاريخية للحركات الإسلامية، على اختلاف سياقاتها، أن النموذج التنظيمي التقليدي الذي تأسس في مراحل السرية والمواجهة لم يعد قادرا على الاستجابة لتحولات الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الراهن. فذلك النموذج، القائم على بنية مغلقة ومركزية صارمة، كان في لحظة ما أداة للحماية وضمان الاستمرارية، لكنه مع مرور الزمن تحول إلى عبء ثقيل يقيد الفاعلية ويستنزف الطاقة ويعطل إمكانات التجديد. الأزمة هنا ليست ظرفية ولا مرتبطة بأخطاء أشخاص بعينهم، بل هي أزمة بنيوية تتعلق بشكل التنظيم، ومنطقه الداخلي، وعلاقته بالمجتمع وبالفاعلين من حوله.

أحد أبرز مظاهر هذه الأزمة يتمثل في المركزية الخانقة التي احتكرت القرار داخل دوائر ضيقة، غالبا ما تكون مرتبطة بالقيادة التاريخية أو الجيل المؤسس. هذا النمط من الإدارة حول التنظيم إلى هرم جامد، تصعد فيه القرارات من الأعلى إلى الأسفل دون تفاعل حقيقي مع القواعد أو مع الواقع المتغير. النتيجة لم تكن فقط قتل روح المبادرة لدى الأفراد، بل أيضا تعطيل الكفاءات الشابة التي وجدت نفسها محاصرة بسقف تنظيمي منخفض، لا يسمح لها بالمغامرة أو الابتكار أو اقتراح حلول جديدة. ومع تعقد القضايا المجتمعية، بات هذا النمط عاجزا عن مواكبة السرعة المطلوبة في الفعل والاستجابة، في مقابل عالم بات يدار بالمرونة واللامركزية والشبكات المفتوحة.

وإلى جانب المركزية، برز منطق الولاء التنظيمي بوصفه معيارا أساسيا للانتماء والترقي داخل التنظيم. فقد جرى، في كثير من الحالات، استبدال الالتزام القيمي أو الكفاءة العملية بما يشبه “البيعة التنظيمية”، حيث يصبح الولاء للكيان أو للقيادة مقدما على الولاء للفكرة أو للمصلحة العامة. هذا التحول أفرغ العمل الحركي من روحه الإصلاحية، وحوله إلى بنية تحافظ على ذاتها أكثر مما تنشغل بتحقيق أثر ملموس في الواقع. ومع الزمن، أنتج هذا المنطق حالة من الجمود، وأقصى طاقات قادرة على العطاء لكنها ترفض الانضباط الأعمى أو التماهي الكامل مع التنظيم بوصفه غاية في ذاته.

كما ساهمت التربية الانغلاقية في تعميق هذه الأزمة، حين انصرفت الجهود إلى صناعة “مجتمع موازٍ” يعيش داخل فقاعة تنظيمية، له لغته الخاصة، ورموزه، ومخاوفه، وحدوده الصارمة مع الخارج. هذا النمط من التنشئة عزز الشعور بالتمايز، لكنه في المقابل أضعف القدرة على التفاعل الطبيعي مع المجتمع، وعلى فهم تعقيداته وتناقضاته. وعند أول اختبار حقيقي، سواء عبر القمع أو التحولات السياسية أو التغيرات الثقافية، وجد كثير من الأفراد أنفسهم أمام خيارين قاسيين: الذوبان الكامل في المجتمع بعد فقدان الإطار التنظيمي، أو التفكك النفسي والفكري نتيجة انهيار العالم المغلق الذي تربوا داخله. وهنا تتجلى خطورة التربية التي لا تؤسس للفرد المستقل القادر على الفعل في الفضاء العام، بل تصنع تابعاً هشاً لا يحسن الحركة خارج أسوار التنظيم.

ولا يقل عن ذلك إشكال القيادة الزعامية، التي استمدت شرعيتها من التاريخ أو الكاريزما أو الأقدمية، لا من القدرة على الإنجاز أو إدارة الاختلاف أو تيسير العمل الجماعي. هذا النمط من القيادة حول التنظيم في كثير من الأحيان إلى فضاء لإعادة إنتاج الأشخاص أنفسهم، بدل أن يكون حاضنة لصناعة نماذج ناجحة ومتعددة. ومع تعقد التحديات، لم تعد الزعامة الخطابية أو الرمزية قادرة على الإقناع أو الإلهام، خاصة لدى الأجيال الجديدة التي تقيس المصداقية بميزان النتائج، لا بميزان الشعارات أو السرديات البطولية.

في ظل هذه المظاهر المتراكمة، يتضح أن النموذج التنظيمي التقليدي فقد شروط صلاحيته التاريخية. فالمجتمع اليوم مجتمع شبكي، مفتوح، سريع الإيقاع، قائم على التخصص وتقاسم الأدوار والشفافية. ولم يعد ممكنا الاستمرار بعقلية السرية والانغلاق والمركزية دون دفع ثمن باهظ من حيث الفاعلية والمصداقية. إن الحاجة باتت ماسة إلى صيغة جديدة للعمل الإسلامي، تقوم على الاستقلال المبادراتي، حيث يمنح الأفراد والفرق هامشا واسعا للاجتهاد واتخاذ القرار، وعلى الانتماء القيمي القائم على الكفاءة والقدرة على تقديم حلول واقعية لمشكلات الناس، لا على مجرد الولاء التنظيمي.

كما أن الانتقال من التربية الانغلاقية إلى العمل المؤسسي الشفاف في الفضاء العام أصبح ضرورة، لا خيارا ثانويا. فالوضوح والمأسسة لا يحميان فقط من الانغلاق، بل يمنحان العمل الإسلامي قدرة أكبر على التأثير والتراكم والتقييم والمساءلة. وفي السياق نفسه، تصبح القيادة الميسرة بديلا عن الزعامة المتسلطة، قيادة دورها تهيئة البيئة، وربط المبادرات، وصناعة نماذج ناجحة قابلة للتكرار، لا احتكار القرار أو الظهور.

إن تشخيص هذه الأزمة ليس دعوة إلى القطيعة مع التجربة التاريخية، ولا تنكرا لما قدمته من تضحيات وإنجازات، بل هو شرط ضروري لتجاوزها. فالحركات التي لا تراجع نماذجها التنظيمية محكوم عليها إما بالتحول إلى هياكل فارغة، أو بالانفصال التدريجي عن المجتمع الذي تدعي خدمته. وفي عالم يتغير بسرعة، لم يعد البقاء للأكثر تنظيما بالمعنى التقليدي، بل للأكثر قدرة على التعلم، والتكيف، وصناعة الأثر الحقيقي في حياة الناس.

ملامح الصيغة الجديدة: فلسفة المشروع والعمل الشبكي

تتأسس الصيغة المقترحة على فلسفة المشروع بدلا من التنظيم ، وتتبنى آليات العمل الشبكي  كإطار عمل .

1. الاستقلال المبادراتي والتعاقد على الإنجاز

يجب تشجيع ظهور مجموعات صغيرة وشبكات مرنة تعمل وفق أهداف محددة ومؤقتة. هذا يتطلب تحولا جذريا في مفهوم الانتماء، حيث بستبدل الولاء للكيان بـ التعاقد على الإنجاز. يصبح المعيار هو الكفاءة والقدرة على تقديم حلول واقعية وملموسة للمشكلات الاجتماعية والتنموية، بدلا من الانضباط التنظيمي .

2. المأسسة والتخصص الوظيفي

إن التحول من الحركة الشاملة إلى المؤسسات التخصصية هو مفتاح الفاعلية. يجب أن يتجه العمل الإسلامي نحو إنشاء:

مراكز أبحاث متخصصة في القضايا التنموية والاجتماعية.

جمعيات تنموية تعمل في مجالات محددة (التعليم، الصحة، البيئة).

منصات رقمية لإثراء المحتوى وبناء الوعي النقدي.

هذه المؤسسات يجب أن تخضع لمعايير الحكامة الحديثة والشفافية، وتكون مفتوحة للكفاءات من خارج الدائرة التنظيمية الضيقة، مما يضمن لها القبول والشرعية في الفضاء العام.

3. القيادة الميسرة وصناعة النماذج

تتطلب المرحلة الجديدة نمطا من القيادة يتجاوز الزعامة الفردية إلى التيسير. القائد الميسر هو الذي لا يحتكر القرار بل يهيئ البيئة لإطلاق طاقات الآخرين، ويركز على بناء "النماذج الناجحة" التي يمكن محاكاتها وتكرارها، بدلا من إصدار الأوامر الفوقية . إن الشرعية في هذا النموذج تستمد من الإنجاز الميداني والقدرة على حل المشكلات، لا من التراتبية التاريخية.

التجارب المغربية في سياق ما بعد الإسلاموية

يعد المغرب مختبرا غنيا لدراسة تحولات العمل الإسلامي، خاصة في ظل مفهوم "ما بعد الإسلاموية" الذي طرحه آصف بيات .

1. تجربة حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح

شكلت تجربة حزب العدالة والتنمية (PJD) وحركته الدعوية الأم، حركة التوحيد والإصلاح (MUR)، نموذجاً للتحول من السرية والتنظيم المغلق إلى المشاركة السياسية العلنية . ورغم التراجع السياسي الأخير للحزب، فإن التجربة كشفت عن ضرورة:

الفصل الوظيفي: بين العمل السياسي (الحزب) والعمل الدعوي/المدني (الحركة والجمعيات).

التخصص: حيث اتجهت الحركة الأم إلى التركيز على الجانب التربوي والاجتماعي، تاركة العمل السياسي للحزب.

ومع ذلك، فإن هذا النموذج لم ينجح بشكل كامل في تجاوز أزمة الاستقطاب النخبوي، وبقي الانخراط الشعبي الواسع في قضايا الحركة محدوداً، مما أدى إلى ظاهرة "المتفرج".

2. المبادرات الشبابية والشبكات الرقمية

شهد المغرب ظهور مبادرات شبابية مستقلة، غالبا ما تكون ذات مرجعية إسلامية أو قيمية، وتعتمد على العمل الشبكي الرقمي والمنصات التخصصية . هذه المبادرات، التي تركز على المحتوى الرقمي، أو الريادة الاجتماعية، أو العمل الخيري المباشر، تمثل تجسيداً عملياً لنموذج "المشروع" و"الاستقلال المبادراتي"، حيث لا تخضع لمركزية تنظيمية خانقة، وتستمد شرعيتها من جودة المنتج والانتشار الرقمي.

استقطاب الشعب في القضايا الكبرى: فلسطين نموذجاً 

إن سؤال استقطاب الشعب في القضايا الكبرى، وفي مقدمتها قضية فلسطين، لم يعد سؤال الحماسة ولا النوايا، بل سؤال المنهج والآليات والقدرة على تحويل القضايا من شعارات نخبوية إلى مشاريع مجتمعية حية. فالتجربة التاريخية أظهرت أن حضور القضية في الوجدان لا يعني بالضرورة انخراط الناس فيها، وأن التعاطف الواسع يمكن أن يتعايش مع سلوك المتفرج إذا لم تُوفَّر له قنوات عملية للمشاركة. من هنا يصبح الإشكال الحقيقي هو كيف ننتقل من منطق “التعبئة التنظيمية” إلى منطق “الاستنهاض المجتمعي”، ومن فكر الحركة إلى فكر الأمة.

لقد بني النموذج القديم في التعبئة على تصور يرى في التنظيم الفاعل الأوحد، وفي الجماهير رصيداً بشرياً يُستدعى عند الحاجة، خصوصاً في لحظات التظاهر والاحتجاج. كان الهدف الضمني هو إظهار القوة والعدد والانضباط، أكثر من بناء علاقة طويلة الأمد بين الناس والقضية. ومع مرور الزمن، تحول هذا الشكل من الفعل إلى طقس مكرر، يشارك فيه المنخرطون أنفسهم، بينما بقيت الأغلبية تراقب من بعيد، مقتنعة بعدالة القضية لكنها غير معنية عمليا بحملها. زاد من هذا الانفصال اعتماد خطاب أيديولوجي مغلق، يُشعِر غير المنتمين بأن القضية لها “أصحابها الشرعيون”، وأن الاقتراب منها يمر عبر بوابة الولاء والانخراط التنظيمي.

في المقابل، يفرض الواقع اليوم نموذجا مختلفا في الفهم والعمل، نموذجا لا يسأل الناس أن يلتحقوا بالتنظيم، بل يسأل التنظيم  إن وجد  أن يلتحق بالمجتمع. نموذجا لا يجعل التظاهر غاية في ذاته، بل جزءا من منظومة أوسع من الأفعال الملموسة التي يشعر المواطن من خلالها أن للقضية امتدادا في حياته اليومية. عندما تتحول فلسطين من شعار يرفع في الشارع إلى مشروع يمارس  في الواقع، عبر الإغاثة، ودعم صمود الأسر، والعمل الإعلامي، والضغط القانوني، والمبادرات الثقافية، فإن المشاركة لا تعود فعلا نخبويا، بل تصبح سلوكا اجتماعيا متاحا للجميع.

جوهر التحول يكمن في الانتقال من الخطاب المغلق إلى خطاب قيمي مفتوح، لا يختزل القضية في لغة الانتماء الأيديولوجي، بل يقدمها باعتبارها قضية إنسانية وأخلاقية جامعة، يمكن للطبيب أن يخدمها من موقعه، وللفنان من فنه، وللمؤثر الرقمي من منصته، وللأم من تعاطفها ونشاطها الاجتماعي. هذا الخطاب لا يقصي أحدا، ولا يسأل الناس “من أنتم؟” بل “ماذا تستطيعون أن تفعلوا؟”، فيتحول التنوع من عبء إلى مصدر قوة، وتتحول القضية إلى مساحة مشتركة لا إلى هوية مغلقة.

كما أن الاستقطاب العمودي الذي ساد طويلا، والقائم على التدرج الهرمي الصارم، أثبت محدوديته في زمن الشبكات. المجتمعات اليوم تتحرك أفقيا، عبر حملات عابرة، ومنصات متخصصة، ومبادرات صغيرة قابلة للتكرار والانتشار. القدرة على التأثير لم تعد حكرا على القيادات الزعامية، بل أصبحت موزعة بين فاعلين صغار، إذا أُحسن تمكينهم وتنسيق جهودهم. هنا يتغير دور القيادة من التحدث باسم القضية إلى تيسير المبادرات، وفتح المسارات، وبناء الأطر الشفافة التي تتيح للناس أن يكونوا شركاء حقيقيين لا مجرد جمهور.

إن تحويل فلسطين من قضية الحركة الإسلامية إلى مشروع الأمة لا يعني تمييعها ولا نزع بعدها العقدي، بل تحريرها من الاحتكار الرمزي والتنظيمي، وإعادتها إلى فضائها الطبيعي كقضية جامعة. مشروع الأمة يعني أن يشعر الفرد أن له نصيباً حقيقياً في الفعل، وأن مساهمته – مهما كانت صغيرة – معترف بها ومؤثرة. ويعني أيضاً أن العمل من أجل القضية يخضع لمنطق المؤسسية والشفافية والمحاسبة، لا لمنطق الحشد الموسمي والانفعال العابر.

في هذا الأفق، يصبح استقطاب الشعب نتيجة طبيعية لا هدفا دعائيا. فالناس لا تنخرط لأنها خوطبت طويلا بل لأنها وجدت نفسها جزءا من فعل ذي معنى، ولأن القضية خرجت من منصة الخطابة إلى مجال الحياة. وحين يحدث هذا التحول، لا تعود فلسطين امتحانا لصدق الشعارات، بل ميدانا لإعادة بناء العلاقة بين الفكرة والأمة، بين القيم والممارسة، وبين الوعي والفعل.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك