أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/م.إيطاليا
انطلقت بتعليمات ملكية سامية وتحت
إشراف وزارة الداخلية لقاءات مباشرة مع المواطنين بهدف الاستماع إلى مطالبهم
وشكاياتهم، وهي خطوة تُحسب في ظاهرها ضمن مبادرات الانفتاح على الشارع والتفاعل مع
نبض المجتمع، خاصة بعد موجة الاحتقان والحراك الشعبي الأخير الذي تخللته بعض أعمال
العنف المؤسفة، والتي نتمنى أن تُطوى صفحتها في إطار مصالحة وطنية حقيقية تضع حدًا
لمعاناة الأمهات والآباء والأيتام الذين فقدوا أبناءهم في تلك الأحداث.
غير أن السؤال الجوهري الذي يفتح باب
النقاش على مصراعيه هو: إذا كانت هذه المبادرات صادرة عن إرادة ملكية مباشرة، فما
الجدوى إذن من وجود كل تلك المؤسسات المنتخبة، من برلمان ووزراء وأحزاب ونقابات،
التي تُرهق ميزانية الدولة بمبالغ ضخمة دون أن تلامس نبض المواطن أو تستمع لآلامه؟
كيف يُعقل أن يُصرف على فطور وزيرة ما
يقارب 2500 درهم، بينما هناك مغاربة يعملون شهرًا كاملًا بأقل من هذا المبلغ،
وربما لا يجدونه أصلًا دون وساطة أو محسوبية؟
ومن زاوية أخرى، أين هي الأحزاب
السياسية التي كان يُفترض أن تكون صلة الوصل بين المواطن والدولة؟
لقد تحولت في نظر الكثيرين إلى ما
يُعرف بـ"الدكاكين السياسية" أو "الكراجات الانتخابية"، التي
تفتح أبوابها قبيل الانتخابات وتغلقها فور الإعلان عن النتائج، تاركة الشارع في
عزلة سياسية قاتمة، أحزاب فقدت مصداقيتها وتحولت إلى مواسم عابرة تشبه سباقات
الخيل، يتسابق فيها "الشناقة الانتخابويون" على المناصب والمكاسب.
أما النقابات، التي كانت يومًا صوت
العمال والموظفين، فقد تحولت بدورها إلى هياكل خاوية يصفها المواطنون اليوم
بـ"النفايات" بعدما فقدوا الثقة فيها، فهي لا تدافع عن العامل البسيط
ولا عن المزارع أو المعلم أو الطبيب.
اختبأت وراء شعارات وحملت مظلات مثقوبة،
"لا تغطيها من قطرات المطر ولا من حرارة الشمس"، ولم تعد قادرة على
حماية المنخرطين ولا على الترافع عن قضاياهم العادلة.
ولا ننسى الوداديات التي كانت في
الماضي صوتًا قويًا للمواطنين داخل مكاتب الباشوات والقياد والعمال، قبل أن تتحول
إلى أوكار للفساد بفعل المكاتب الفاسدة التي سيطرت عليها، فهجرها الناس وابتعدوا
عنها بعدما شوهت تاريخ عمل الوداديات.
أما الجمعيات، التي كانت العمود
الفقري لتأطير الشباب وإعداد النخب السياسية والنقابية والحقوقية، فقد تم إضعافها
وتفكيكها بشكل ممنهج.
الجمعيات الجادة تم تهميشها وإقصاؤها،
بينما تم تمكين جمعيات أخرى من أموال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فاغتنم
البعض الفرصة وجعل منها وسيلة للإثراء غير المشروع بتواطؤ مع بعض رجال السلطة،
وعندما حاول بعض هؤلاء المطالبة بالإصلاح أو كشف الفساد، وُوجهوا بتقارير جاهزة
تدفعهم نحو القضاء والخوف من العقوبات ألجم ألسنتهم.
وبعد أحداث الربيع العربي سنة 2011،
تعرضت الجمعيات النزيهة، التي رفضت الركوع لإملاءات وزارة الداخلية أو الخضوع
للمساومات، "أنها تلحس من القصرية" إلى التضييق والتلفيق والمحاكمات
الصورية، حيث تمت تصفية الأصوات الحرة التي طالبت بحقوق مشروعة وعدالة اجتماعية،
وطبقة مثقفة فضلت الرجوع للخلف والإكتفاء بدول المتفرج والمعلق بتدوينات في صفحات الفايسبوك
والنقاشات في المقاهي التي لا تتعدى الأرصفة، بينما تُرك المفسدون في مواقعهم
يعبثون بمصالح الوطن.
الحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن
وزارة الداخلية في عهد "لفتيت" ساهمت في خنق الحياة الجمعوية والسياسية
في المغرب، وأفرغت المجتمع المدني من روحه، مما جعل الحوار مع المواطنين أقرب إلى
"حوار الأموات" .
ولا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي أو
تنموي حقيقي دون محاسبة الفاسدين الذين نهبوا المال العام في الوزارات والقطاعات
المختلفة...حينها فقط يمكن فتح ورش نقاش سياسي ديمقراطي داخل المؤسسات الشرعية،
ويُعطى للفاعل الجمعوي الحق في المراقبة والاقتراح والتبليغ عن الفساد، وفق ما ينص
عليه الدستور، بدل صياغة قوانين تُقصيه وتُجرده من حقه في المساهمة.
فإذا استمر هذا النهج، فلن يكون
الحوار إلا مع أموات لا قدرة لهم على النقاش، يكتفون بالسمع والطاعة دون رأي أو
موقف، والطاعة العمياء لم تكن يومًا معيارًا للديمقراطية، بل هي مجرد قنبلة موقوتة
تنتظر الشرارة.
بناء الوطن لا يكون بشعارات ولا
بسياسات ترقيعية، بل بتربية المواطن الحر، وتكوين المرأة الواعية، وتعليم الجيل
الجديد حب الوطن بروح المسؤولية والانتماء، عندها فقط سيكون الحوار مع الأحياء، لا
مع الأموات، يا أم الوزارات.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك