الخير من الصحراء والشر من الصحراء

الخير من الصحراء والشر من الصحراء
مقالات رأي / الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 - 21:22 / لا توجد تعليقات: تهنئة بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء المظفرة

بقلم : مصطفى شكري

ليست الصحراء المغربية مجرد امتداد رملي في الجنوب، بل هي محرار الأمة ومرآة الدولة، تكشف وجه المغرب كما هو، حين يُحسن تُظهر نوره، وحين يظلم تعكس سواده. من الصحراء خرج الخير، ومنها خرج الشر؛ منها بدأت الدول، ومنها اهتزّت العروش. فهي ميزان عدلي يزن به التاريخ صدق الدولة من زيفها، وإيمانها من ادعائها.

من يتأمل تاريخ المغرب يدرك أن كل من حكمه جاء من الصحراء؛ من رمالها خرج المرابطون يحملون راية الدين والعلم، ومن جبالها قامت دول الموحدين والسعديين والعلويين. فالصحراء كانت دائمًا منبع الشرعية ومصدر القوة، ومختبر كل تجربة في الحكم والسياسة. لكن كما أن الخير جاء منها، فإن الشر أيضًا كان يخرج منها؛ فكل صغير يقع من الصحراء، وكل ضعف في وحدة الأمة يبدأ من هناك، لأن الصحراء ليست هامشًا، بل قلب الدولة ومهدها.

الخير من الصحراء حين تكون أرضًا للعدل لا ميدانًا للمزايدة، حين يشعر أبناؤها أن الوطن يفتح لهم أبوابه لا يستعملهم في شعاراته، وحين تتحول التنمية فيها إلى عمل نزيه لا إلى تجارة في الوطنية. الخير منها حين تُبنى فيها دولة الحق، دولة الشورى، دولة تُقيم العدل كما أمر الله: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ"، فلا خير في أرض تُرفع فيها الرايات دون أن يُرفع فيها ميزان العدل.

والشر من الصحراء حين تتحول إلى ذريعة لإسكات الأصوات أو لتثبيت الاستبداد، حين تُستعمل قضية الصحراء كغطاء لظلم الداخل، أو كدرع تُخبأ وراءه أخطاء الحكم، أو حين يُقال "لا صوت يعلو فوق صوت الصحراء" ليُسكَت صوت الحق والعدل. فالعدل لا يُلغيه الوطن، بل به يُصان الوطن، والوطن الذي يُقيم الظلم باسم وحدته يفقد روحه قبل أن يفقد أرضه.

إن مشروع الحكم الذاتي ليس مجرد حل إداري أو سياسي لقضية الصحراء، بل هو ميزان العدالة الشاملة الذي سيكشف صدق الدولة في وعدها ببناء مغرب جديد. فإذا تحقق الحكم الذاتي بمعناه الحقيقي، القائم على مشاركة الشعب في تدبير شؤونه، واحترام كرامته وحقوقه، وتوزيع الثروة بعدل، فسيكون ذلك الخطوة الأولى نحو إقامة دولة الحق، دولة الشريعة، ودولة الكتاب والسنة.

دولة لا تفرق بين جهة وأخرى، ولا بين قبيلة وأخرى، ولا بين من يسكن الساحل ومن يعيش في الصحراء. الحكم الذاتي في الصحراء يجب أن يكون النموذج الذي تحتذي به باقي الجهات، معيارًا للمساواة والتوازن، ومفتاحًا لبناء دولة العدل والإحسان، لا دولة الامتياز والاحتكار.

إن خير هذا البلد يجب أن يعمّ الصحراء كما يعمّ سائر ربوع الوطن، فلا معنى لوطنٍ يُغدق خيره على قلةٍ ويترك أكثريته في الحرمان. ما يجري اليوم من احتكارٍ للثروة، واحتكارٍ للسياسة، واحتكارٍ للقرار، هو أصل الداء وسبب البلاء، ولن ينتهي هذا الوطن على خير إن بقيت فئة تتحكم في مصير الملايين وتستأثر بخيرات البلاد وحدها.

إن أصل الأزمة من الصحراء، لأن أصلها الاستغلال، ومن رحم الاستغلال تولد الفتنة، ومن الفتنة يضيع الوطن. الذهب في هذه البلاد بعيدٌ عن أهلها، والثروة محجوزة في يد القلة، والعدل غائبٌ عن موازين الحكم. وما لم يتحقق التوازن بين المركز والهامش، وبين السلطة والشعب، فإن ما يُبنى على الظلم مصيره الزوال مهما طال.

الحكم الذاتي، إذا تأسس على قيم العدالة القرآنية، سيكون الطريق نحو العدالة الاجتماعية الحقيقية التي تنتظرها الأمة، لأن العدالة ليست قانونًا مكتوبًا في الأوراق، بل روحٌ تسري في الحكم حين يُراقب الحاكم ربَّه قبل رعيته، ويعلم أن السلطة أمانة لا غنيمة، ومسؤولية لا تفضّل.

وحين يُبنى الحكم على الشورى لا على التوجيه، وعلى المصلحة العامة لا على مصالح فئةٍ محدودة، سيتحقق معنى الدولة التي أرادها الله لعباده: دولة الحق، ودولة الكتاب والسنة، ودولة العدل والإحسان.

الخير من الصحراء حين تكون منطلقًا لدولة راشدة عادلة تُقيم الدين وتُنصف الإنسان، والشر منها حين تُستعمل لتقديس الحكم وتبرير الباطل. من هناك بدأ تاريخ المغرب، ومن هناك سيتقرر مستقبله؛ فإن عاد العدل إلى الصحراء، عاد الخير إلى الوطن كله، وإن بقي الظلم فيها، فلن يسلم منه أحد، لأن الخير من الصحراء والشر من الصحراء.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك