تحصين المكتسبات الديمقراطية: دلالة التدرج في المسار السياسي

تحصين المكتسبات الديمقراطية: دلالة التدرج في المسار السياسي
مقالات رأي / الثلاثاء 04 نونبر 2025 / لا توجد تعليقات: تهنئة بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء المظفرة

​بقلم : د . أحدو محمد

​في سؤال طرح في سياق أحد اللقاءات الثقافية  التي حضرتها، أسهب فيها المتدخلون حول ضرورة تحصين المكتسبات في معرض الحديث عن الآليات التي تعتمد عليها الديمقراطيات الناشئة في سعيها نحو الرقي والتطور. أثار انتباهي مداخلة عرَّج فيها أحد السادة المتدخلين على مفهوم تحصين المكتسب الديمقراطي في المجتمعات النامية-  وان كان الامر  يحتاج الى تدقيق على مستوى المضمون حينها ،- ، حيث يحيل هذا المفهوم إلى سؤال جوهري مؤداه :

 هل الديمقراطية في علاقتها بالتنزيل ممارسة تفترض التنزيل الكامل لمتطلباتها وعناصرها دفعة واحدة؟ أم أنها كممارسة تستدعي التدرج والتنزيل المرحلي لقواعدها، حتى نتحدث عن التحصين لما بُني، والتطلع إلى المزيد من آلياتها؟                    

​إن هذا التساؤل الجوهري يعيدنا إلى تأصيل مفهوم الديمقراطية من حيث دلالتها الفلسفية السياسية التي يتم ربطها بأنساق أساسية للتنزيل. تشير المرجعيات العلمية والتجارب السياسية  للدول التي قطعت اشواط متقدمة في الديمقراطية إلى أن الديمقراطية ليست عملية تنزيل كامل فوري، بل ممارسة تستدعي التدرج والتنزيل المرحلي لقواعدها لتحقيق التحصين (Consolidation).

إن مفهوم تحصين المكتسبات الديمقراطية، في الديمقراطيات الناشئة، يتجاوز مجرد إجراء انتخابات دورية أو إقرار نصوص دستورية (التنزيل الأولي). بل هي عملية تجذير تضمن بقاء واستدامة النظام الديمقراطي، وتجعله منيعاً ضد الانتكاسات. وفي هذا السياق، تصبح محاولة التنزيل الكامل لمتطلبات الديمقراطية (بناها المؤسسية، وثقافتها السياسية، وعدالتها الاجتماعية والاقتصادية) دفعة واحدة، محاولة طوباوية محفوفة بالمخاطر. فالمجتمعات النامية تفتقر إلى البنية التحتية الصلبة اللازمة لـ "القفزة الديمقراطية"، مما قد يؤدي إلى الـهشاشة المؤسسية، حيث لا تجد القواعد الديمقراطية قبولاً سلوكياً لدى النخب السياسية والمواطنين، الأمر الذي يفتح الباب أمام الفشل السريع ، أي العودة إلى الحكم السلطوي أو الفوضى، كما حدث في العديد من حالات ما سُمي "بموجات التحول الديمقراطي العكسي".

​من هذا المنطلق، يشدد علماء السياسة، مثل خوان لينز و ألفريد ستيبان(1)، على التمييز بين مرحلتين رئيسيتين في المسار الديمقراطي. الأولى هي مرحلة الانتقال (La Transition)، وهي مرحلة مراجعة النظام السابق وتنصيب المؤسسات الجديدة كالانتخابات والدستور، وتُعد مرحلة التأسيس الأولي.

أما الثانية، فهي مرحلة التحصين (Consolidation)، وهي مرحلة تعزيز وتثبيت هذه المؤسسات الجديدة وقواعدها بشكل يجعلها الخيار الوحيد المقبول والمستدام. ويعد التحصين المكتمل هدفاً نهائياً للمسار الديمقراطي، ويتحقق فعلياً عبر أبعاد متكاملة، أبرزها التحصين السلوكي الذي يتمثل في قبول النخب وجميع اللاعبين السياسيين الكبار، بمن فيهم الخاسرون، بـ قواعد اللعبة الديمقراطية ويحترمونها، وتصبح الخسارة في الانتخابات والانتقال السلمي للسلطة أمراً روتينياً غير قابل للمساومة.

كما يقتضي التحصين كذلك التحصين المدني والثقافي، حيث يتطور على مستوى المجتمع ثقافة مدنية وسياسية داعمة للديمقراطية، تكرس التسامح والتعددية والمشاركة، مما يعزز الشرعية المؤسسية؛ فلا يمكن المطالبة بالديمقراطية مع رفض آلياتها من حيث المبدأ.

بناءً على هذا الربط، فإن الإسهاب في موضوع تحصين المكتسبات يجب أن يركز على الآليات التي تضمن هذا التدرج المدروس وتجعل المكاسب الأولية (كالحريات الأساسية أو المؤسسات التمثيلية) نقطة انطلاق لـ تعميق الديمقراطية، بدلاً من أن تكون نقطة ارتداد. إن التدرج ليس مجرد خيار تكتيكي، بل هو استراتيجية منهجية لضمان استدامة النظام الديمقراطي وتجذير قيمه. 

(1)  Linz, Juan  .J Stepan. Alfred . Problemes de la transition et de la Consolidation démocratiques:Europe du Sud, Amérique du Sud et Europe post-communiste. Éditions Fides 1997

 

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك