
أنتلجنسيا المغرب: فهد الباهي/م.إيطاليا
في الدول التي تحترم نفسها، حين نتأمل مشهدها
السياسي، نجد رجالا ونساء قادة تدرجوا في مؤسسات حزبية، تربوا في أحضان جمعيات
ونقابات، تمرسوا على النقاش العمومي، وتعلموا معنى التضحية والنضال، هناك لا مكان
للصدفة ولا للمصادفة، بل للجدية والمسار الطويل، بينما نحن في المغرب نعيش نقيضا
تاما، أحزاب تفتح أبوابها كما تفتح "الكراجات" في موسم الانتخابات،
وتغلقها بمجرد انتهاء البيع والشراء، عفوا إعلان النتائج.
السياسة في أصلها التزام أخلاقي ومسؤولية تاريخية، وليست تجارة
أصوات ولا لعبة "لايفات" مباشرة، " ولايكات جيم"، السياسي
الحقيقي لا يصنعه "عدد المتابعين" في وسائل التواصل ، ولا "مقياس
المشاهدات" إمتياز، بل تصنعه التجارب والتضحيات والمواقف، غير أن أحزاب اليوم
حولت نفسها إلى سوق نخاسة، تبحث عن وجوه "فايسبوكية"
و"يوتوبية"، كأنها بضاعة تزين بها لوائحها الانتخابية.
من أحزاب إلى
محلات بقالة تبحت عن واجهة تزيين.
منذ الاستقلال، كان النضال الحزبي يعني الاصطفاف خلف قضايا
الشعب الكبرى، التعليم، الصحة، الشغل، والكرامة، أما اليوم فقد صار الحقل الحزبي
عبارة عن ساحة استعراض للطبالين والمطبلين، "والطوطواااات" حيث يعلو
الصراخ الصخب على الخطاب الفقكري، وتغيب البرامج لتحل محلها لغة
"الترند" و"البوز" " والطوندوز".
الأخطر أن هذه الرداءة ليست نتاج صدفة، بل هي سياسة ممنهجة
عنوانها الحقيقي بلا مكياج "التسفيه"، نعم، التسفيه، الدولة تساهم في
تبخيس الأدوار الجادة في المجتمع، المعلم صار أضحوكة في المسلسلات، الموظف موضوع
سخرية في النكت، الشرطي مادة للتهكم في الفيديوهات، الطبيب يوصف بالجزار، والنتيجة
تآكل احترام المؤسسات وإضعاف هيبتها.
وهذا خطر وشيء
غير صحي في نخاع الدولة .
الإعلام الرسمي نفسه انخرط في لعبة صنع التفاهة، بدل أن يرفع
شأن العلماء ونخبة المثقفين والباحثين وأصحاب الرأي، صار يصنع نجوما من
"الطوطوات"، يلمعهم حتى يغدو لهم وزن في الشاشة ويصنع منه سياسي مزيف، والنتيجة أننا صرنا أمام مشهد عبثي، التافه
يُقدَّم كقدوة، والجاد يُقصى إلى الظل.
هذه الممارسات ضرب مباشر في عمق الأخلاق المغربية، عادات دخيلة
تسللت إلينا عبر قنوات موجهة وأفكار ملوثة، عري مبتذل، استعراض مقيت، إهانة للذوق
العام، كلها قيم غريبة عن المجتمع المغربي، لكنها اليوم تجد لها مكانا محجوزا في
الشاشات الرسمية، "بغيتي ولا كرهتي"، الأحزاب، بدل أن تقاوم هذا
الانحدار، ركبت موجته، صارت مثل الدكاكين الموسمية، تفتح في الحملات الانتخابية
لتوزيع الوعود والشعارات، ثم تغلق فور فرز النتائج. هذا، لأنها فقدت مصداقيتها، لم
تجد سوى "الفايسبوكيين" لتعيد بهم بعضا من بريقها الزائف.
أي مهزلة هذه
حين يخرج أمين عام حزب يدعي اليسارية والشيوعية أو الوطنية، ليتباهى باستقطاب
"يوتيوبر" أو "مؤثرة" لا تاريخ لها في النضال سوى عدد
"اللايكات" و"المتابعين"، كأن السياسة تحولت إلى مزاد علني،
يُباع فيه صوت المواطن مقابل المشاهدات، لقد انتقلنا من أحزاب حملت هم المقاومة
والنضال ضد الاستعمار، إلى أحزاب تناضل من أجل "البوز"
و"الترند"، من قادة كانوا يضحون بحياتهم من أجل الوطن، إلى
"يوتيوبر" يستعرضون حياتهم اليومية يعرون أنفسهم ومؤخرات زوجاتهم
وبناتهم ويظهرونها للعامة، بحثا عن المزيد من "السبسكرايبر" .
هذه الفئة
ليست لها غيرة على نفسها وزوجاتها وعائلاتها كيف تغار على الوطن ؟
إنها قمة
العبث السياسي، حيث البرلمان مهدد بأن يتحول إلى "استوديو لايف"،
والوزراء سيخاطبون الشعب عبر "ستوري إنستغرام"، والقوانين ستناقش تحت
"الكومنتات"، بدل أن تصاغ تحت قبة مؤسسة دستورية، البرلمان، المواطن
الذي فقد الثقة في الأحزاب لم يعد يرى فيها سوى كراجات مهترئة، تتناوب على فتح
وإغلاق أبوابها عند المناسبة، بلا مبدئية ولا استمرارية.
إنها مقابر
للأفكار، لا مصانع للبرامج.
ما يجري اليوم
إعدام متعمد للعمل الحزبي الجاد، لقد تحولت السياسة من فضاء للتأطير والتثقيف إلى
مسرح للفرجة والضحك الرخيص، لم يعد للجدية موطئ قدم، وكل من يتحدث بلغة العقل صار
خارج "الموضة"، الخطر أن هذه الرداءة ستنعكس مباشرة على حياة الناس، حين تُدار
السياسة بهذه العقلية، فإن القوانين ستكون ضعيفة، والقرارات مرتجلة، والمواطن
سيدفع الثمن من صحته وتعليمه ومعيشته.
إنها سياسة
تدمير للأجيال، لأنها تقدم قدوات مغلوطة، وتزرع في الشباب وهما اسمه "البوز
طريق النجاح"، بينما النجاح الحقيقي لا يُبنى إلا على الكفاح والمعرفة والعمل،
المشهد الحزبي صار مرآة لانهيار القيم العامة، فإذا كانت النخب السياسية نفسها
تبحث عن "البوز"، فماذا ننتظر من باقي المجتمع سوى المزيد من التفاهة
والانحدار؟
في مقابل هذا
الخراب، لا بد أن نعيد الاعتبار للفعل السياسي الحقيقي، السياسة ليست دكانا
موسميًا، ولا "كراجا" للسمسرة، بل هي التزام تاريخي يتطلب رجالا ونساءً
يملكون الشجاعة والنزاهة، المطلوب اليوم مواجهة هذه الرداءة بالقلم والفكر والموقف،
لا يكفي التذمر، بل لا بد من فضح هذه "الكراجات الحزبية" جميعها، وكشف
عريها أمام الناس، حتى لا تبقى قادرة على تزييف الوعي، التاريخ لا يرحم، ومن يبيع
السياسة للتفاهة سيدفع ثمن خيانته للأجيال، أما الشعب، فعاجلا أم آجلا، سيحاسب هذه
"الكراجات"، وسيغلق أبوابها إلى الأبد.
الرهان هو
استرجاع الثقة المفقودة، والثقة لن تعود عبر "يوتيوبريين" ولا
"فايسبوكية"، بل ستعود عبر قادة حقيقيين، يصنعون الأمل بالفعل لا
بالشعارات، المعركة اليوم ليست بين أحزاب أو تيارات، بل بين الجدّية والتفاهة، فإذا
انتصرت التفاهة، خسرنا وطنا بأكمله، أما إذا عادت الجدية، فسيبقى المغرب واقفا رغم
كل العواصف.
إصلاح التعليم هو الحل .
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك