الجبهة الموحدة بين الإسلاميين واليسار في المغرب:جدلية الحقوق والسياسة في مسار العدالة الانتقالية المتعثر

الجبهة الموحدة بين الإسلاميين واليسار في المغرب:جدلية الحقوق والسياسة في مسار العدالة الانتقالية المتعثر
مقالات رأي / الجمعة 12 دجنبر 2025 / لا توجد تعليقات:

بقلم:عبد الفتاح الحيداوي

تناقش هذه الورقة الأكاديمية مدى إمكانية نجاح مقترح تأسيس "جبهة موحدة لمناهضة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان" في المغرب، والتي تسعى لتوحيد جهود فصائل متباينة أيديولوجيا، بما في ذلك المعتقلون الإسلاميون السابقون وضحايا اليسار التاريخي. ينطلق المقترح من تشخيص فشل نموذج العدالة الانتقالية المغربي، المتمثل في هيئة الإنصاف والمصالحة (IER)، في تحقيق "ضمانات عدم التكرار" ومعالجة ملف "الجيل الثاني من الضحايا" بعد أحداث 2003. تخلص الدراسة إلى أن نجاح هذه الجبهة مرهون بقدرتها على تغليب البعد الإنساني والحقوقي على التباينات الأيديولوجية العميقة وأن تحولها إلى إطار مستقبلي ليس أمرا صعب التحقق في المدى القريب، لانه سيساهم في بلورة ثقافة سياسية جديدة قائمة على المشترك الحقوقي.

مقدمة: العدالة الانتقالية بين الإرث العالق والانتهاكات الراهنة

شكلت تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة (IER) في المغرب، التي تأسست عام 2004، نقطة تحول في مقاربة الدولة لإرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال ما عرف بـ "سنوات الرصاص" 1. ورغم الإشادة الدولية التي حظيت بها التجربة، خاصة فيما يتعلق بجبر الضرر الفردي والاجتماعي، إلا أن تقييمات أكاديمية وحقوقية عديدة تشير إلى فشل ذريع في تحقيق الأهداف الجوهرية للعدالة الانتقالية، أبرزها كشف الحقيقة الكاملة، والمساءلة الجنائية للجناة، وتوفير ضمانات حقيقية لعدم تكرار الانتهاكات 2.

لقد أدى هذا الفشل إلى ظهور ما يمكن تسميته بـ "الجيل الثاني من الضحايا" وهم بشكل أساسي المعتقلون الإسلاميون الذين طالتهم الاعتقالات والمحاكمات غير العادلة والتعذيب في سياق مكافحة الإرهاب بعد أحداث 16 ماي 2003 3. هؤلاء الضحايا الذين عانوا من انتهاكات جسيمة مماثلة لضحايا الماضي، وجدوا أنفسهم خارج الإطار الزمني والمؤسساتي لهيئة الإنصاف والمصالحة، مما خلق إشكالية حقوقية جديدة تتطلب مقاربة مختلفة.

في هذا السياق، برز مقترح تأسيس "جبهة موحدة" تجمع بين قدماء المعتقلين الإسلاميين المفرج عنهم والفصائل الحقوقية والسياسية الأخرى، بما في ذلك اليسار واليمين، بهدف مناهضة الانتهاكات المستمرة والمطالبة بإتمام مسار العدالة الانتقالية 4. تطرح هذه الجبهة سؤالا محوريا: هل يمكن للضرورة الحقوقية أن تتجاوز الخلافات الأيديولوجية العميقة لتشكل إطارا نضاليا فعالا وهل يمتلك هذا الإطار مقومات التحول إلى كيان ثقافي جديد مستقبلي قائم على المشترك الحقوقي؟

أولا: الضرورة الحقوقية كقاسم مشترك أعظم

إن القوة الدافعة وراء مقترح الجبهة الموحدة لا تكمن في التقارب الأيديولوجي، بل في الضرورة الإنسانية والحقوقية التي يفرضها استمرار الانتهاكات الجسيمة. فالمسألة الحقوقية، هي مسألة إنسانية أولا، تستوجب احترام المختلف وتغليب مبدأ الكرامة الإنسانية على أي انتماء فكري أو سياسي.

1. فشل العدالة الانتقالية في "ضمانات عدم التكرار"

تؤكد الدراسات أن الانتهاكات التي تعرض لها المعتقلون الإسلاميون بعد 2003، مثل الاختطاف، التعذيب، والمحاكمات غير العادلة بناءا على اعترافات منتزعة، هي تكرار لأنماط الانتهاكات التي وثقتها هيئة الإنصاف والمصالحة في الماضي 3. هذا التكرار يثبت أن توصيات الهيئة المتعلقة بالإصلاح المؤسساتي والتشريعي لم تفعل بشكل كاف، وأن "دولة الحق والقانون" التي نص عليها الدستور لا تزال تواجه تحديات في الممارسة الفعلية.

يشكل مساران «ضحايا سنوات الرصاص» و«الجيل الثاني من الضحايا» فصلين متوازيين في تاريخ الانتهاكات الجسيمة بالمغرب، لكنهما نادرا ما يدرسان ضمن سردية موحدة تبرز منطق الدولة وتحولات مقاربتها الأمنية والسياسية. فعلى الرغم من اختلاف السياقات التاريخية والإيديولوجية، تجمع التجربتين بنية واحدة: جهاز دولتي يستعمل القوة خارج القانون عندما يشعر بتهديد سياسي أو أمني يتجاوز قدرته على الضبط التقليدي.

فخلال سنوات الرصاص، خصوصا ما قبل 1999، شكل اليسار الراديكالي محطَّ استهداف بفعل اشتباكه المباشر مع بنية السلطة. كان الاختفاء القسري والتعذيب والاعتقال التعسفي أدوات أساسية لإخماد الأصوات المعارضة. ومع نهاية التسعينيات، اتجهت الدولة إلى تدبير جديد للذاكرة المؤلمة عبر تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة، التي مثلت خطوة تقدمية نسبيا في الاعتراف وجبر الضرر، رغم أنها لم تزل كل آثار المعاناة، إذ ظل الإدماج محدودا والإنصاف غير مكتمل.

لكن التحول الكبير وقع بعد 2003، مع موجة الاعتقالات التي طالت آلاف الإسلاميين في سياق «الحرب على الإرهاب»، حيث ولد جيل جديد من الضحايا خارج أي إطار شامل للعدالة الانتقالية. ورغم تغير الفاعلين المستهدفين من معارضين يساريين إلى متهمين بالارتباط بتيارات إسلامية فإن المنهج ظل قريبا في بنيته: الاعتقال التعسفي، التعذيب، المحاكمات غير المنصفة، والاختطاف. غير أن هذا الجيل الثاني لم يحظ بمسار اعتراف مؤسسي شبيه بما ناله ضحايا الماضي فالدولة تعاملت مع الملف بمنطق أمني صرف، تاركة وراءه وصمة اجتماعية وإقصاءً دائماً ومآسٍ اقتصادية عميقة طالت آلاف الأسر.

إن المقارنة بين التجربتين تكشف مفارقة واضحة: فبينما حظي ضحايا اليسار باعتراف رسمي ونمط من جبر الضرررغم محدوديته ظل ضحايا «الجيل الثاني» عالقين في المنطقة الرمادية، بلا تأهيل ولا إدماج ولا اعتراف بكون ما تعرضوا له انتهاكات جسيمة. هذه المفارقة لا تعكس اختلافا في درجة الألم بقدر ما تعكس اختلافا في السياق السياسي: إذ كانت سنوات الرصاص جزءا من «مرحلة التحديث السياسي» التي أرادت الدولة أن تنهيها بصيغة تصالحية، بينما جاءت مرحلة ما بعد 2003 في سياق دولي ضاغط عنوانه «مكافحة الإرهاب»، ما أعطى للدولة هامشا واسعاا للتشدد من دون أن تلزم نفسها بأفق مصالحة.

ومع ذلك، فإن القاسم المشترك بين التجربتين وهو التعرض لانتهاكات جسيمة من طرف أجهزة الدولة يكشف أن مسار العدالة الانتقالية في المغرب لم يغلق فعلا، بل أُعيد إنتاجه بصيغة مختلفة وبفئة جديدة من الضحايا. وهذا ما يجعل الملف مفتوحا على نقاش جوهري: هل يمكن بناء ذاكرة حقوقية وطنية مشتركة تنهي منطق التجزئة وتضع جميع الضحايا، مهما كانت خلفياتهم، ضمن سردية واحدة للإنصاف والاعتراف؟ أم أن الدولة ستستمر في انتقاء اللحظة السياسية التي تناسبها لتقرر من يستحق «صفة الضحية» ومن لا يستحقها؟

 

2. التقاء الأجندات الحقوقية

إن توحيد الجبهة على أساس حقوقي يجد سنده في تجارب سابقة للتقارب بين الإسلاميين واليسار في المغرب، خاصة في سياق الحركات الاحتجاجية. ففي حركة 20 فبراير وفي قضايا وطنية أظهرت الفصائل المتباينة قدرة على التنسيق والعمل المشترك عندما يتعلق الأمر بـ وحدة الخصم أو "مركزية مطلب الديمقراطية ودولة الحق" 5.

في الحالة الراهنة، يمثل ملف المعتقلين الإسلاميين السابقين فرصة لتوحيد الصف الحقوقي، حيث يدرك اليسار أن الدفاع عن حقوق هذه الفئة هو دفاع عن مبدأ عدم التكرار الذي طالما نادى به، وأن أي انتهاك يطال أي فصيل هو تهديد للجميع. هذا التفاهم المشترك يمثل الأساس الصلب الذي يمكن أن تبنى عليه الجبهة الموحدة.

ثانيا: التحديات الأيديولوجية والسياسية أمام نجاح الجبهة

رغم قوة الدافع الحقوقي، فإن نجاح الجبهة الموحدة يواجه تحديات بنيوية تتعلق بالتباين الأيديولوجي الحاد والقيود التي يفرضها السياق السياسي المغربي.

1. التباين الأيديولوجي وتضارب الأولويات

يظل التباين الأيديولوجي بين اليسار (الذي يتبنى غالبا مواقف علمانية أو حداثية) والإسلاميين (الذين ينطلقون من مرجعية دينية) عقبة كأداء 6. فبينما يتفق الطرفان على المطالبة بالحقوق المدنية والسياسية الأساسية (الحرية، العدالة، الكرامة)، تظهر الخلافات عميقة في قضايا المجتمع (مثل الحريات الفردية، قضايا المرأة والإصلاحات التشريعية).

هذا التباين يؤدي إلى تضارب في الأولويات حيث قد يميل كل فصيل إلى التركيز على قضيته الخاصة أو التخوف من أن يؤدي التقارب إلى تهميش أجندته الأيديولوجية. إن الحفاظ على الجبهة يتطلب تجريد المطالب من أي حمولة أيديولوجية والتركيز فقط على المطالب الإنسانية والحقوقية المشتركة (جبر الضرر المساءلة، كشف الحقيقة).

2. حساسية الملفات وغياب الإرادة السياسية

تتمثل العقبة الأكبر في حساسية الملفات التي تطالب الجبهة بفتحها، خاصة تلك المتعلقة بالمساءلة الجنائية للجناة في الانتهاكات اللاحقة، وملف المعتقلين الإسلاميين الذي ينظر إليه من زاوية أمنية وسياسية معقدة 4. إن العدالة الانتقالية في المغرب كما أثبتت تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، كانت عملية مراقبة من الأعلى، حيث تم تحديد سقفها السياسي مسبقا وتم استبعاد المساءلة الجنائية كلياً.

إن المطالبة بـ "فتح تحقيق مستقل في الانتهاكات لتحديد المسؤوليات" تتجاوز الحدود المرسومة سابقا وتتطلب إرادة سياسية عليا غير متوفرة حالياً. وقد يتم تهميش مطالب الجبهة بحجة الأولويات الوطنية الكبرى (مثل الاستحقاقات الاقتصادية والرياضية) مما يضع الجبهة أمام تحدي الضغط الفعال والمستدام.

ثالثا: إمكانية التحول إلى إطار مشترك مستقبلي

تتضمن رؤية الجبهة الموحدة إمكانية تحولها إلى إطار مستقبلي، وهو ما يثير تساؤلات حول طبيعة هذا الإطار وحدود تحقيقه.

1. الجبهة الموحدة كـ "تحالف عمل" وليس "تحالف حكم"

من الناحية الأكاديمية يجب التمييز بين "تحالف العمل"  و"التحالف الحقوقي". الجبهة الموحدة، في شكلها الحالي هي تحالف عملي ومرحلي يهدف إلى تحقيق هدف محدد (العدالة الانتقالية الشاملة). هذا النوع من التحالفات لا يتطلب بالضرورة وحدة في الرؤى السياسية الشاملة بل يكفي وجود تقاطع في الأجندات 5.

.

2. خلق "ثقافة التقارب" وتأثيرها على المشهد السياسي

ومع ذلك، فإن نجاح الجبهة في التأسيس والعمل المشترك يمكن أن يساهم في خلق "ثقافة التقارب"  بين النخب كالحاصل مع نخب العدل والاحسان. هذه الثقافة، التي تضع الحقوق الإنسانية فوق الخلافات الأيديولوجية، يمكن أن تؤثر على المشهد السياسي المستقبلي من خلال:

توسيع قاعدة المطالبة بالديمقراطية: توحيد الأصوات المعارضة على أساس حقوقي يمنحها شرعية أوسع وقوة ضغط أكبر.

تغيير أولويات النخب: إجبار النخب السياسية على تبني القضايا الحقوقية كأولوية وطنية بدلا من حصرها في صراعات أيديولوجية هامشية.

تأسيس مرجعية أخلاقية: توفير مرجعية أخلاقية مشتركة يمكن أن تستند إليها التحالفاتالحقوقية المستقبلية حتى لو لم تكن الجبهة نفسها هي الإطار المشترك.

الخلاصة والتوصيات

يمثل مقترح الجبهة الموحدة لمناهضة الانتهاكات في المغرب نقلة نوعية في الفعل الحقوقي، من العمل المشتت إلى العمل الاستراتيجي الجماعي ومن المطالبة بالماضي إلى ربط الماضي بالحاضر. إن نجاح هذه الجبهة مرهون بـ:

1.الالتزام الصارم بالبعد الإنساني والحقوقي: يجب أن تظل الجبهة وفية لمبدأ أن المسألة الحقوقية هي مسألة إنسانية أولا وتجنب الانزلاق إلى الصراعات الأيديولوجية.

2.صياغة أجندة مرحلية واقعية: البدء بالممكن (كجبر الضرر الشامل والإدماج الاجتماعي للمعتقلين السابقين) والتدرج نحو الأصعب (كالمساءلة وكشف الحقيقة الكاملة).

3.بناء تحالفات عابرة للمؤسسات: البحث عن حلفاء داخل المؤسسات الرسمية والبرلمان، واستقطاب وجوه وطنية محايدة لزيادة مصداقية المبادرة.

فمجرد وجود هذه الجبهة ونجاحها في تحقيق مكاسب حقوقية مرحلية سيشكل انتصارا لمفهوم العدالة الانتقالية الشاملة، ويؤسس لثقافة سياسية جديدة يمكن أن تفتح صفحة أكثر نضجا في علاقة الدولة بالمجتمع المدني والسياسي في المغرب.

المراجع

[1] هيئة الإنصاف والمصالحة.. التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة المغربية.

[2] منظمة هيومن رايتس ووتش.. هيئة الإنصاف والمصالحة والقضايا الراهنة لحقوق الإنسان.

 

3حقيقي، محمد. (1 أكتوبر 2025). جبهة موحدة لمناهضة الانتهاكات في المغرب: مقترح طموح أمام اختبار التطبيق.  https://al3omk.com/1105417.html

[5] هيسبريس. (23 نوفمبر 2009). الإسلاميون واليسار بين القطيعة والتعايش.  https://www.hespress.com/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D8%B1-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9-24486.html

[6] العربي الجديد. (16 أغسطس 2014). حوار الإسلاميين واليساريين ممكن في المغرب.  https://www.alaraby.co.uk/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%85%D9%83%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8

[7] العمق المغربي. (1 نوفمبر 2025). العدالة الانتقالية في المغرب: هل نحن بحاجة إلى جيل ثانٍ من الإنصاف؟. [رابط المصدر]

ملاحظة: تم استخدام التواريخ والأحداث الواردة في المرفق والبحث كمرجعيات زمنية وسياقية للموضوع الأكاديمي.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك