الفساد في المغرب: الأزمة الهيكلية المطلوبة للمحاسبة الحقيقية

 الفساد في المغرب: الأزمة الهيكلية المطلوبة للمحاسبة الحقيقية
مقالات رأي / الثلاثاء 12 أغسطس 2025 - 15:36 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد العرش المجيد

بقلم: سمير بوزيد 

نائب رئيس الهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب، و احد مؤسسيها

تشير التقارير الرسمية، وعلى رأسها تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنتي 2023-2024، إلى أن الفساد في المغرب بلغ مستويات مقلقة، حيث تحول من مجرد ظاهرة عابرة إلى بنية نظامية تهدد الاقتصاد وفرص التنمية والعدالة الاجتماعية. هذا العجز الهيكلي في مواجهة الفساد لا يقتصر على اختلاس المال العام فقط، بل يطال السياسة والإدارة والمؤسسات، مما يستدعي وضع نظام محاسبي وقضائي فعال يتجاوز الخطابات الإعلامية والشعارات الرنانة.

يكشف تقرير المجلس الأعلى للحسابات عن عجز مالي إجمالي يناهز 55 مليون درهم في حسابات العديد من المؤسسات العمومية، في حين لم تستعد الدولة إلا نحو 51% من الأموال المنهوبة، أي ما يقارب 28 مليون درهم فقط. هذه الأرقام تعكس فشل آليات المحاسبة التقليدية، ووجود جيوب فساد متغلغلة في مفاصل الدولة. أما في المجال السياسي، فلم تُحَال إلى القضاء سوى 3.3% من قضايا تمويل الحملات الانتخابية المشبوهة، رغم تسجيل 474 حالة مخالفة. هذا الإفلات من العقاب يرسّخ ثقافة الحصانة ويُضعف فرص تكافؤ الفرص بين الأحزاب والمواطنين.

ينبع فساد المغرب من ثلاثة مرتكزات رئيسية تشكل بنية الفساد المؤسساتي، أولها الصفقات العمومية التي تُمنح في أحيان كثيرة دون أي شفافية أو منافسة حقيقية، بل تُرسى على شركات وهمية أو غير مؤهلة، مما يؤدي إلى تهريب المال العام تحت مظلة قانونية. ثانياً، التعيينات الإدارية المبنية على المحسوبية، التي تحوّل الإدارة من أداة خدمة عمومية إلى شبكة مصالح مغلقة تمنع أي إصلاح حقيقي. ثالثاً، الإصلاحات الشكليّة مثل مشروع الجهوية المتقدمة و"الميثاق الوطني للاتمركز الإداري" فشلت بسبب غياب إرادة سياسية حقيقية وآليات محاسبة فعلية، مما أدى إلى ترحيل مظاهر الفساد من المركز إلى الأقاليم بدلاً من القضاء عليها.

بالإضافة إلى ذلك، يُكشف استمرار العمل بنظام التصريح بالممتلكات دون فرض عقوبات رادعة عن ضعف العزيمة في الإصلاح القانوني، وهذا يعكس أن الجراح العميقة لازالت غير مطبّقة، وأن الطرق الترقيعية تهيمن على المعالجة.

إن واجب اليوم هو الانتقال من مجرد التشخيص إلى اتخاذ إجراءات قانونية واضحة، قابلة للتنفيذ ومحمية من أي تراجع. لذلك، نقترح خمسة إجراءات عاجلة وملحة: أولاً، إنشاء محاكم متخصصة في جرائم الفساد تتمتع بصلاحيات استثنائية تشمل التحقيق والضبط، مع اعتماد مبدأ المصادرة العكسية للأموال غير المبررة. ثانياً، ربط التمويل العمومي للهيئات والأحزاب بالشفافية، بما يشمل نشر الحسابات المالية الكاملة وإمكانية تجميد التمويل أو إلزام الإرجاع في حالة التجاوزات. ثالثاً، رقمنة نظام التصريح بالممتلكات وربطه ببيانات الضرائب والسجل العقاري لكشف أي تضخم غير مشروع في ثروات الموظفين العموميين. رابعاً، حماية المبلغين عن الفساد عبر مكافآت مالية، وتمكين الجمعيات من رفع الدعاوى بالنيابة عن المجتمع لدعم المقاضاة الاستراتيجية. خامساً، تأسيس هيئة وطنية مستقلة لمحاربة الفساد تضم قضاة ومحامين وأكاديميين وخبراء مالية ترفع تقاريرها سنوياً إلى البرلمان والملك بعيداً عن أي نفوذ حكومي.

تكلفة الفساد ليست مالية فقط، بل هي استنزاف لثقة المواطنين في مؤسساتهم، التي كما كشف استطلاع 2024 لا يتعدى فيها الثقة الـ26%، مما ينذر بخطر زعزعة استقرار الدولة والمجتمع. توضح تقديرات البنك الدولي أن كل يوم تأخير في مكافحة الفساد يكلف الدولة 15 مليون درهم، بما يفوق 5.4 مليار درهم سنوياً، وهو رقم يفوق بعض ميزانيات قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم.

إن محاربة الفساد مسؤولية مشتركة تبدأ من المواطن الذي يجب أن يستخدم حقه القانوني في النفاذ إلى المعلومة لمراقبة المال العام، وتمتد إلى الإعلام الذي عليه أن يواكب الموضوع بتحقيقات استقصائية توثيقية تفضح التجاوزات، وصولاً إلى القضاء الذي يجب أن يكون خط الدفاع الأخير عن العدالة والمحاسبة. كما يُعد الشباب أصحاب الأدوات الرقمية والثقافات الجديدة قوة ضغط فاعلة قادرة على كشف الفساد ومساءلة صناع القرار.

ختاماً، أزمة الفساد في المغرب ليست مجرد مشكلة إدارية أو مالية عابرة، بل نظام عصي فرض نفسه على مفاصل الدولة والمجتمع. لا يمكننا تحقيق التنمية أو العدالة الحقيقية دون محاسبة فعلية تتحقق بوضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، وتحميل المسؤوليات بصرامة، لأن حماية المال العام مسؤولية جماعية لا تقبل المساومة. وبناء عليه، تصبح المحاسبة الركيزة الأساسية لمستقبل مغرب أكثر شفافية وعدلاً واستقراراً. فمسؤوليتنا جميعاً أن نُحَمّل المعنيين مسؤولياتهم، لأن استمرار الإفلات من العقاب هو القنبلة الاجتماعية التي تهدد وطننا.

إنه واجبنا جميعاً أن نقول بصوت واحد: لا مكان لمن يخرق القانون، ولا مستقبل لمن يعبث بالمال العام، فالمحاسبة هي سبيلنا الوحيد لحماية الدولة وصون حقوق المغاربة جميعاً

المصادر :                                                                     

تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنتي 2023-2024

استطلاع وطني حول ثقة المواطنين في المؤسسات، 2024

تقديرات البنك الدولي لكلفة الفساد على الاقتصاد المغربي

مذكرات ودراسات قانونية حول الفساد المؤسساتي في المغرب

تقارير إعلامية وتحليلية حول قضايا الفساد المالي والسياسي بالمغرب

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك