أنتلجنسيا المغرب:ياسر اروين
يُجمع عدد كبير من الباحثين والمراقبين للشأن المغربي على أنّ المشهد السياسي والحزبي في المملكة يعرف خصوصية شديدة، تميّزه عن أغلب التجارب الديمقراطية الكلاسيكية، حيث يلعب القصر الملكي دورًا مركزيًا في ضبط إيقاع الحياة السياسية وتوجيه توازناتها الكبرى.
وبينما يقدّم الدستور الملكَ باعتباره الحكم الضامن لاستمرار الدولة، يرى محللون آخرون أنّ هذا الدور توسّع عبر السنوات ليشمل تأثيرًا واسعًا على الأحزاب، الحكومات، والقرارات الاستراتيجية.
هذا التحقيق يحاول تقديم قراءة معمّقة لهذه الهيمنة البنيوية، انطلاقًا من مسار تاريخي وسياسي طويل، دون الانزلاق إلى مزاعم غير موثقة أو أحكام نهائية.
من “المخزن التقليدي” إلى دولة مركزية حديثة
يعود جزء كبير من التأثير الحالي للقصر إلى الإرث المخزني الذي حكم المغرب لقرون. ففي التاريخ السياسي المغربي، كان السلطان يمسك بمفاتيح الشرعية، يعين القياد والباشوات، ويتحكم في موازين القوة. هذا الإرث انتقل بشكل تدريجي إلى بنية الدولة الحديثة بعد الاستقلال، حيث تحولت المؤسسة الملكية إلى الفاعل الأول في إنتاج القرار السياسي.
منذ عهد الملك الحسن الثاني، برزت صيغة سياسية واضحة عنوانها "الملكية التنفيذية"، حيث يمسك القصر بالقطاعات الاستراتيجية مثل الداخلية، الخارجية، الأمن، والدفاع، بينما تُترك للحكومة مهام التدبير اليومي.
هذا النموذج لم يتغير جذريًا بعد دستور 2011 رغم التوسّع النسبي في صلاحيات رئيس الحكومة. فالبنية العميقة للسلطة ما تزال مقسّمة على نحو يميل لصالح المؤسسة الملكية.
دور المستشارين:سلطة غير منتخبة لكنها مؤثرة
يعدّ المستشارون الملكيون حلقة محورية في هندسة القرار السياسي. أسماء بارزة مثل فؤاد علي الهمة، ياسر الزناكي، أندري أزولاي، عمر عزيمان… تُعتبر فعليًا جزءًا من "العقل السياسي" للدولة.
ويلعب المستشارون عدة أدوار:
1. الوساطة بين القصر والأحزاب
في عدة محطات سياسية مفصلية، برز المستشارون كقنوات تفاوض، سواء خلال تشكيل الحكومات أو في تدبير أزمات بين الفرقاء السياسيين.
2. هندسة الخريطة الحزبية
يعتبر كثير من المحللين أن تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة سنة 2008 شكّل نقطة تحول، إذ سُوّق له كحزب حديث مدعوم من محيط القصر لضبط المجال الحزبي. رغم نفي الحزب رسميًا لأي ارتباط، فإن حضوره السريع والقوي غذّى النقاش حول دور المستشارين في "صناعة التوازنات".
3. صياغة الاستراتيجيات الكبرى
بعض الأوراش مثل الجهوية المتقدمة، إصلاح التعليم، والنموذج التنموي الجديد، ظهرت فيها بصمة واضحة للدوائر الاستشارية بالقصر.
الأحزاب السياسية: ضعف بنيوي أم تهميش مقصود؟
تعيش الأحزاب المغربية منذ سنوات طويلة أزمة عميقة تتمثل على سبيل المثال لا الحصر في:
تراجع الانخراط الشعبي
غياب قيادات كاريزمية
غياب إنتاج فكري وسياسي قوي
اعتماد مفرط على الدولة بدل الارتكاز على قواعد اجتماعية حقيقية
هذا الضعف البنيوي خلق فراغًا فتح المجال أمام هيمنة المؤسسة الملكية على الشأن العام.
بالمقابل هناك رأيًا آخر يرى أنّ هذا الضعف ليس طبيعيًا، بل نتيجة عقود من التدخلات التي أعاقت تشكل حياة حزبية قوية.
نماذج من مظاهر الأزمة:
حزب الاستقلال: إرث تاريخي كبير لكن تأثيره تقلّص.
الاتحاد الاشتراكي: من قيادة حكومة إلى حزب محدود التأثير.
العدالة والتنمية: صعود قوي ثم انهيار مدوّ بعد انتخابات 2021.
الأحرار: صعود متسارع بفضل دعم اقتصادي واجتماعي قوي حول رئيسه.
هذه التحولات تُقرأ غالبًا في إطار علاقة القصر بكل حزب، وكيف تُعاد هندسة خريطة النفوذ كل بضع سنوات.
تشكيل الحكومات:حضور القصر في الخلفية
على الرغم من أن الدستور يمنح رئيس الحكومة حق تشكيل حكومته، إلا أن عدة تجارب أظهرت حدود هذا المبدأ.
أزمة 2016–2017: "البلوكاج الحكومي"
بعد فوز العدالة والتنمية، واجه عبد الإله بنكيران تعطيلًا استمر خمسة أشهر، قبل إعفائه وتكليف سعد الدين العثماني بتشكيل حكومة موسّعة و"مطواعة".
هذه المرحلة اعتُبرت من المحطات التي كشفت بوضوح عن قدرة القصر ومستشاريه على التأثير في المعادلة الحكومية.
اختيار الوزراء الاستراتيجيين
وزارات مثل الداخلية، الخارجية، الدفاع، الأوقاف… تبقى خارج الصراع الحزبي التقليدي، لأنها مرتبطة برؤية الدولة العميقة، وليس برؤية الأغلبية الحكومية.
اقتصاد السياسة:حين يلتقي النفوذ الاقتصادي بالسلطة
يرى خبراء أنّ جزءًا من القوة السياسية للقصر ينبع أيضًا من قدرته على التحكم في الشبكات الاقتصادية الكبرى:
شركات استراتيجية
استثمارات ملكية ضخمة
تداخل بين رجال أعمال نافذين ومسارات القرار السياسي
هذه العلاقة بين الاقتصاد والسياسة تجعل الحياة الحزبية محدودة التأثير في الملفات الاقتصادية الكبرى.
هل يمكن لميزان القوى أن يتغير؟
يتجه عدد من الباحثين إلى أن مستقبل السياسة في المغرب لن يشهد تحولات جدية ما لم تُحدث الأحزاب إصلاحات داخلية حقيقية تتمثل في:
ديمقراطية داخلية
استقلال مالي
تجديد النخب
تواصل مباشر مع المجتمع
في المقابل، يعتقد آخرون أن أي تغيير في التوازنات لن يحدث دون قرار من القصر نفسه بتحرير المجال الحزبي، وترك الأحزاب تُنتج نخبتها وبرامجها دون تدخل في الكواليس.
ختاما، فالمشهد السياسي المغربي الحالي هو نتيجة تراكمات تاريخية وسياسية عميقة، تجعل المؤسسة الملكية — بحكم الدستور والتقاليد — اللاعب الأول في تسيير الشأن العام، حيث تأثير القصر ومستشاريه على الحياة الحزبية أصبح جزءًا من "النموذج السياسي المغربي"، بجوانبه الإيجابية والسلبية معًا.
ورغم أن هذا النموذج حقق قدرًا من الاستقرار، إلا أنه يطرح سؤالًا كبيرًا حول مستقبل الديمقراطية التمثيلية في المغرب.
فهل يمكن بناء حياة سياسية قوية ما دامت الأحزاب في موقع التابع، والقصر في موقع المتحكم؟
سؤال مفتوح…والإجابة عليه ستحدد مستقبل المغرب السياسي لعقود قادمة.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك