أنتلجنسيا المغرب:أحمد الهيلالي
في تحول اجتماعي غير مسبوق، لم يعد سوق الملابس المستعملة المعروف بـ"البال" حكرًا على الطبقات الفقيرة والهشة في المغرب.
فقد أضحى هذا العالم المليء بالألوان والقصص وجهة مفضلة لفئات ميسورة ومن الطبقات المتوسطة والعليا، التي كانت بالأمس القريب تعتبر هذا السوق خارج نطاق ذوقها أو هويتها الاستهلاكية.
من الحاجة إلى الموضة: "البال" يتجدد
قبل سنوات، كان يُنظر إلى "البال" كخيار اضطراري لمن لا يستطيع شراء الجديد. كان عنوانًا على الفقر والهشاشة، ومرتبطًا بالبحث عن ستر الجسد بأقل كلفة ممكنة. لكن المشهد تغيّر جذريًا. فاليوم، ترى سيارات فاخرة تقف أمام أسواق الملابس المستعملة، ونخبة من الشباب والفتيات، وحتى أرباب أسر من الطبقات الميسورة، يتجولون بين الأكوام بحثًا عن قطعة نادرة، أصلية، تحمل توقيع ماركة عالمية أو روح زمن موضة غاب.
لم يعد الأمر متعلقًا فقط بالثمن، بل أصبح نمطًا استهلاكيًا جديدًا يزاوج بين الذكاء المالي، والبحث عن الأصالة، والانخراط في توجه عالمي نحو إعادة التدوير ومحاربة ثقافة الاستهلاك السريع.
ماركات عالمية بأثمان رمزية
السر وراء هذا الانجذاب المفاجئ يكمن في الفرص الثمينة التي يتيحها سوق "البال". قطع ملابس من علامات مثل Zara وH&M وTommy Hilfiger وNike، وحتى Burberry وLacoste، تُعرض أحيانًا بأقل من 50 درهما. هذه الصفقات تُشعل حماسة المتسوقين، خاصة وأن بعضها لا يزال يحمل ملصق السعر الأصلي، ما يعطي انطباعًا بالصيد الثمين.
يقول عبد الله، تاجر بالملابس المستعملة في الدار البيضاء:
"زمان كان الزبون كيشري باش يغطي غير راسو، دابا كاين اللي كيدخل عندي وهو لابس ماركات فاخرة، وكيبقى يقلب على الستيل والندرة. 'البال' ولى موضة راقية ماشي ديال الزوالي بوحدو".
الموضة المستدامة تلهم النخبة
التحول أيضًا يجد تفسيره في تصاعد الوعي البيئي والاجتماعي، خاصة في أوساط الشباب الحضري المتعلم. فموضة "الاستدامة" تدعو إلى إعادة استعمال الألبسة بدل رميها، وتشجع على تقليص البصمة البيئية لصناعة الموضة، التي تُعد من أكثر الصناعات تلويثًا في العالم.
هؤلاء المتسوقون الجدد يرون في اقتناء "البال" نوعًا من النضج الاستهلاكي والموقف الأخلاقي. تقول سارة، طالبة بكلية الطب في الرباط:
"ماشي عيب نشري من البال، العيب هو نساهم فتلويث الأرض بلباس ما كيدومش. لقيت فيه ستيل خاص بيا وقطع ما كايناش فالمولات".
كسر الصور النمطية
اقتحام الطبقات الميسورة لسوق "البال" ساهم أيضًا في تفكيك الأحكام المسبقة التي ظلت تلاحق هذا النوع من الاستهلاك لعقود. لم تعد نظرة الاحتقار الاجتماعي تجاه من يقتني الملابس المستعملة مبررة أو مقبولة. بل تحوّل "البال" في بعض الأوساط إلى فضاء راقٍ للتميّز والتفرد، حيث القطعة الواحدة تحكي قصة لا تشبه غيرها، وتحمل روحًا غير مكررة.
بين الاقتصاد والأزمة
ولا يمكن فصل هذا التوجه أيضًا عن السياق الاقتصادي الحالي، حيث تعاني حتى الطبقات المتوسطة من ارتفاع تكاليف المعيشة والغلاء المتزايد في الأسعار. "البال" أصبح في هذا السياق ملاذا ذكيا للاستهلاك المرن، ووسيلة للتوفيق بين الجودة والسعر المعقول، في وقت أصبحت فيه كلفة المظهر المحترم تُرهق حتى من لهم دخل مستقر.
مستقبل "البال"... رفاهية مقنّعة؟
مع استمرار هذا التحول، يُتوقع أن يزداد الطلب على أسواق "البال"، وأن تُعاد صياغة هويته التجارية بالكامل. البعض بدأ يتحدث عن "رفاهية مستعملة" أو "أناقة بميزانية ذكية"، في إشارة إلى أن هذه الموضة لم تعد دليلًا على الحاجة، بل رمزًا على وعي جديد يدمج بين الذوق، المسؤولية، والاقتصاد.
وهكذا، من زقاق الأحياء الشعبية إلى ردهات المعاهد الراقية، يواصل "البال" شق طريقه من الهامش إلى الواجهة، محوّلا معادلة الاستهلاك رأسًا على عقب، ومعيدًا صياغة العلاقة بين الطبقات الاجتماعية والسوق... في زمن لم تعد فيه الفوارق تُقاس فقط بما تلبسه، بل بكيفية تعاملك مع ما تلبسه.
لا توجد تعليقات:
للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.
أضف تعليقك