"إذا عمت هانت"

"إذا عمت هانت"
أقلام حرة / الجمعة 05 سبتمبر 2025 - 09:00 / لا توجد تعليقات:

تهنئه بمناسبه ذكرى عيد الشباب المجيد

بقلم : نادية عسوي

 يتساءل المرء: ما معنى أن نصحو كل يوم على نفس النغمة الإعلامية، كأن لا همّ لنا إلا تتبع الفضائح والعورات؟ ما معنى أن يتحول الاستثناء إلى قاعدة، وأن يصبح القبح مادة يومية للعرض والتداول؟

المجتمعات، مثل الأفراد، لا تخلو من جراحها: هناك خيانة وزنا وزنا محارم وسكر وعنف وطلاق … هناك آفات اجتماعية مثل بقع سوداء في ثوب أبيض. غير أن الخطر لا يكمن في وجودها فقط، بل في من يُصرّ على جعلها الصورة الوحيدة التي تُعرض على الشاشات. بعض القنوات لم تعد ترى في المجتمع سوى تلك البقع، تركت القيم والمبادرات ونماذج التضامن وقصص النجاح، وأصرت أن تطارد الرذائل من حانة إلى شارع، من كباريه إلى زقاق مظلم. هكذا تُقدَّم الحياة كما لو كانت حديقة خراب لا تنبت فيها إلا الشوك.

حين تتكرر هذه الصور يوميًا، تفقد الاستثناءات معناها. يصبح الزنا عاديًا، والخيانة طبيعية، والعنف جزءًا من اليوميات. وهنا يكمن الخطر الأكبر: التطبيع مع الآفة. بالتكرار، يُزرع في وعي المشاهد أن ما يراه ليس إلا انعكاسًا لما يفعله الجميع. شعار "إذا عمت هانت" يتحول إلى ذريعة، إلى تبرير جماعي للسقوط.

وماذا عن اليافعين والمراهقين وهم يرون أن القنوات لا تذيع إلا مشاهد الانحراف؟ أي قدوة سيجدون حين يُقنعهم الإعلام أن المجتمع غارق في الرذيلة؟ ألن ينزلق وعيهم إلى القبول بأن الانحراف جزء طبيعي من النمو؟ الإعلام هنا لا ينقل الواقع بقدر ما يُعيد صياغته في المخيلة، ويُشوش على البوصلة الأخلاقية للأجيال.

وظيفة الإعلام ليست أن يضاعف القبح، بل أن يكشف جذوره ويقترح سبل تجاوزه. الإعلام الحقيقي لا يلهث وراء الإثارة الرخيصة، بل يوجّه النظر نحو الأسئلة العميقة: لماذا تتفكك الأسر؟ لماذا يُترك الشباب فريسة للبطالة والإحباط؟ لماذا يغيب القدوة؟ وما الحلول الممكنة؟ الإعلام هو مدرسة ثانية، وهو سلطة قيمية بامتياز. وإذا تخلى عن هذا الدور، تحوّل من وسيلة للتنوير إلى أداة لإعادة إنتاج العتمة.

المجتمع ليس كتلة من الرذائل، بل فسيفساء من الخير والشر، من الأمل واليأس، من الطهر والآفات. وحين يختار الإعلام أن يعرض جانبًا واحدًا فقط، فإنه يظلم المجتمع، ويُسهم في انكسار صورته عن نفسه. إن الـ faits divers، مهما كانت مثيرة، يجب أن تبقى استثناءً. أما أن تتحول إلى قاعدة يومية، فهذا يعني أننا فقدنا البوصلة، وأن الإعلام صار شريكًا في التطبيع مع الانحراف بدل أن يكون قوةً لإصلاحه.

فلنتق الله في ابنائنا و مجتمعنا. الإعلام ليس مسرحًا لاستعراض الرذيلة، بل منارة ينبغي أن تضيء الطريق. الاستثناء لا يُبنى عليه مجتمع. وإذا عُمِّم، صار خرابًا.

لا توجد تعليقات:

للأسف، لا توجد تعليقات متاحة على هذا الخبر حاليًا.

أضف تعليقك